عبدالإله العتوبي، باحث في سوسيولوجيا الهشاشة والحياة اليومية.
إن ما يشهده المغرب من تساقط متتالٍ للوجوه السياسية والمسؤولين ضمن عمليات مكافحة الفساد، يمكن قراءته كأثر من آثار نظرية “أثر الفراشة” (Butterfly Effect) التي طورت في إطار نظرية الفوضى، حيث تؤدي تغيرات بسيطة في البنية إلى تحولات عميقة وغير متوقعة في النظام ككل. ما كان يبدو “رفرفة جناح” قرار إداري بسيط، صار اليوم زلزالا يعيد تشكيل خريطة هندسة السلطة والنفوذ.
لكن من يظن أن الدولة مجرد إدارة أو جهاز تقني فهو يختزلها اختزالا خطيرا.. وهنا نستحضر أعمال عالم الاجتماع ماكس فيبر الذي فرق بين “الدولة كجهاز عقلاني قانوني” وبين الدولة ككيان روحي متجذر في الرموز والشرعيات، وهو ما ينطبق على ما تسميه الذاكرة الجماعية المغربية بـ”الإمبراطورية الشريفة”، حيث للدولة جذور ضاربة في التاريخ، تتجاوز تمثلات الأفراد، وتمتد كشبكة من الرموز والطقوس والعلاقات الخفية.
من منظور التفاعلية الرمزية (رموز وبناء المعنى اليومي كما حللها جورج هربرت ميد وإرفينغ غوفمان)، الدولة ليست فقط سلطة تمارس، بل تمثل مسرحا تُلعب عليه أدوار الهوية، الطاعة، والولاء. إن شعار “الله الوطن الملك” ليس مجرد جملة، بل هو سينوغرافيا رمزية تؤطر السلوك العام وتعيد إنتاج الولاءات ضمن مشهد معقد من الأقنعة والأدوار، فكما يقول غوفمان: “الفرد على المسرح الاجتماعي يقدم ذاته أمام جمهور وفق سيناريو يضبطه السياق”، والدولة تضبط هذا السياق ببراعة.
في خلفية هذه التحولات، قد نجد تفكيرا استخباراتيا عميقا لا يشتغل فقط على البعد الأمني، بل على البنية الاجتماعية والنفسية كذلك. فكما قال أليكسندر دو مارانش، الرئيس السابق للمخابرات الفرنسية:
“حين تريد أن تبني دولة قوية، لا تبدأ بالاقتصاد، بل ابدأ بتفكيك شبكات الخيانة، ثم أعد هندسة الرموز.”
ما يحدث إذن هو عملية دقيقة لاجتثاث الأعطاب التنظيمية التي توغلت داخل جسد الدولة، لكنها تجري بأسلوب يشبه “الجراحة الصامتة”. المسؤولون الذين يسقطون ليسوا مجرد أفراد، بل يمثلون “أعطابا رمزية” يجب معالجتها لاستعادة انسجام الكل.
وكما في نظرية الدولة العميقة، فإن الطبقات الظاهرة للمؤسسات ليست إلا غطاء لبنيات رمزية واقتصادية وإيديولوجية أكثر تعقيدا، يتم الاشتغال عليها على المدى البعيد، وفق ما يسميه عالم الاجتماع بيير بورديو بـ”العنف الرمزي”، أي القوة التي تمارس دون أن تُرى، وتُقبل من طرف المُخضع نفسه.
ومع هذا كله، فإن الدولة لا تتحرك ببداهة، بل بحساب زمني استراتيجي. كما قال الجنرال الأمريكي السابق مايكل فنسنت هايدن (الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية):
“حين تتحرك الدولة ضد عناصر الخيانة، فإنها تتحرك ببطء، لكنها لا تتراجع.”
وعليه، فإن ما يجري اليوم لا يجب أن يقرأ فقط بمنطق التصفية أو التطهير، بل بمنطق إعادة هندسة البناء الرمزي للدولة، تعيد من خلاله تحديد معاني الانتماء والولاء، وتطرح سؤالا واضحا:
هل أنت ابن هذا الوطن بما يعنيه فعلا؟ أم مجرد مستفيد من جغرافيته وخيراتها؟
الرسالة واضحة إذن، كما تختتمها الروح الوطنية الخالدة في الشعار الأبدي:
“الله – الوطن – الملك”
لكنها هذه المرة مشحونة بسؤال مرعب:
من لم يلتقط الإشارة… هل سيكون له مكان في مغرب اليوم؟