محمد نخال
دموعُه تنْهمر كسَيل جارف على خدَّين توَرَّمَتا من كمدٍ، وجسْمه غَدا هزيلا من سَقم، لن يَرتاح له بالٌ بعد الآن، فالليل سَرمدي كئيب، أطْبَق على الكائِنات بلا هَوَادة، والقمر شاحِب حزين، هجَر نجومَه، وبدا مُتسكّعا في المَلكوت، لقد خيَّم الهمُّ القاسي عليه، وجثَم الغمُّ على أنفاسه، فخَرسَت العصافير حوله، وصامَت عن تَرديد أناشيد البَهجة وهي عائِدة إلى أوكارها، ذاك ما كان يبدو له، لأنه يَعْلَمُ عِلمَ اليَقينِ أنَّه لن يغْمضَ له جَفْنٌ، في هذه الليلة البئِيسة، التي ستكون لذَيْه أطول من صيْفٍ حارقٍ في بلادٍ مُقْفرَة، ستُحاصِرُه الهواجِسُ من كُل جانبٍ مُحاصَرةَ الضِّباعِ الجائعَةِ لفريسَةٍ تاهَتْ عن قَطيعها.
كيفَ لا ! وهو يسْتشْعِر آلاَمَ أنياب الفِراق، الذي أصْبح قابَ قوْسيْن أو أدْنى، من تمْزيقِ ما تبَقَّى من لحظاتِ السّعادة التي عاشَها معها وهي بقُربه، والتي ستَغْدو بعد هُنَينة مُجرَّدَ سُطورٍ باهِتَةٍ في صَفْحةٍ باليةٍ من كِتاب حَياتِهِ .
خاب رجاؤه، وذابَ أمله، وانكسر فؤاده، بعدما كان يعتَقد أن الودّ قد عقَد بينَ رُوحَيْهِما، عَقْدا لا يَحُلُّهُ إلَّا رَيْبُ المَنُون، لذا كان لا يَحْلُو عيشُه إلا بِرُؤْيتها، ولا يَطيبُ مُقامٌه إلا بِجوارِها، ولا تَزُول العتَمَةُ القابِعَة في أعْماقِه، إلا بِشُروقِ فجْر ابْتِسامَة ثَغْرِها البسَّام .
لقد عاد المسكينُ لتَوِّه من الشّارع المُقابِل لِشُرْفة مسْكنِها مُتْعَباً، مُنْهَكاً، شاحِباً، شارِداً، لأنه يُدْرِكُ أنها المرًة الأخيرة، التي ستُطِّلُ عليه من النّافذة، وسيلة اتصالهما، تلازِمُها كلما أحسّْتْ بمَوعدِ قُدومه، كانت تفْرح لذلك، فرحة الصبايا بقدوم العيد، والفرحة لا تسَعُها كلما لمَحتْه قادما من بعيد، تشير إليه بيَديها، وتكاد تنِطُّ من شُرفتها، وتتمنى لو أن لها جناحينِ، لطارت بهما، وارتمَتْ بين أحضانه، أما هو، فكانت الثَّواني تمُر متثاقلة في انتظار لقائها. كانت مَوقِفها حَرجا، كلما همَّتْ بالخروج إليه، لذا تتَصيَّد الفرصة، وتبحث عن ألف عُذر لتخرج إليه خِلسَة، فلم يكن الأمر سَهلا، فالأسرة مُحافِظة، والجَميع يعلم بسِرّ علاقتهما الغَرامية، لذا تضَعُها دائما تحت الحِراسة النَّظرية. لكن أمام طُوفان العِشق الجارف، تنْهار كل المآمرات، وتتحطم كل القيود، وتنكسر الأغلال الظالمة، وأمام شَريعة الحب، يُكْفَر بكل القوانين الوضْعية، ويُداسُ على كل الأعْراف، فسُلطان الهَوى جبّار عنيد، لا تقْهره جيُوش العادات، ولا تتَحَطّم قِلاعه، عندما يتَملَّك القلوب، ويسْلبُ الأفئدة.
لقد غَذر بهما الزمان، وتكالبَ عليهما القَدر، وخانتْهما الظروف، فأبُوها تَقاعَدَ، وأصْبحَ لِزاما عليْه تَرْك منْزله الوَظِيفي ليَعُودَ إلى مسقِط رأسه.
كان أهلُ البيت مُنْشغِلين بجمْع الآثات اسْتِعدادا للرَّحيل، بينما كانت هي تُطِلُ بين الفيْنة والأخرى برأسها، لِتُلْقي عليه نظْرة الوداع، كسَمكة تَصْعد سطْح الماء، كلما احْتاجَتْ جُرْعة أكْسِجين.
كان ثِيارُ العِشْق جارِفاً يَسْري بينهما، إذْ باسْتطاعتهِ أن يقْرأ مَشاعِرها المُبَعْثَرة بعْثَرَة مُهْجَتِه، سترحَلُ عنه، ستتركه وحيدا، ستُطْبِقُ الوحْدة على أنفاسِه، سيَعُمُّ الكسادُ مشاعِرَه وتبُورُ أحلامُه، ويَجِفُّ منْبع أحاسِيسه. ستَذبُلُ زهْرةُ ربيعه، سَتزْحَفُ رِمالُ التَّصحُّر على ما تبَقَّى من كِيانه. لن تُغرِّدَ بعد اليوم بلابِلُ العشْق في مُنْتَجَع فؤاده، ولن تثْمِرَ أشجارُ المحبّة في حديقة مهجته. ستكْتسِحُهُ جَحافِلُ ظلامِ الهُمُومِ والأخزان، اكْتِساحَ أسْرابِ الجَرادِ لحَقلٍ مُتوَهِّجٍ، فَتَتْرُكُه هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ، كيف لا، وقدْ كانت بَسْمةً مِنْ مُحَيَّى بَدْرٍ، تقْهَرُ العَتَمَةَ في دُنياه.
سيعْتلُّ الفؤاد، وقد كانتْ بلْسَمَه الشَّافي، ستَكْفهِّر سماء روحِه، ويجْتاحها الصَّقيع، وقد كانت شُعاعُ النور، الذي يبعثُ الدّفءَ في داخِله، ستتقطع أوثارُ العود، ولن يَطرَبَ بعد اليوم بأهازِيج الفرحة، التي كانت تغْمُرُه بوجودها.
كان حبُّهُ لها جارفا، يُضاهِي حُبَّ راهبٍ مُعْتَكِفٍ في صومعته أمام صُورةِ العذراء الماثِلةِ أمامَه، لقد خرج من دين الحب، وقد كانت مِحرابِ تعبُّده. وأدْركَ برحيلها أنه خرجَ من مُتْعة رمال شاطئ العِشْق الدًّافئة، ليَغُوصَ في نهْر الوحْدَة والأحْزان القاسِية .
بَدَا القمرُ شاحِبا هذه الليْلة مُحْتَضِراً، والنُّجومُ حولهُ كالثَّكْلى في حِدَاد، نظر إلى السماء مُقاوِما غُصَّةََ حَفرتْ حلقَهُ، وقد فاضَتْ مُقْلتاهُ بالدمع، صَرَخَ في أعْماقه صرْخةَ يائِسٍ يُقاوِم بطْش الأمواج العاتِية، في مَجْرى ثِيارٍ مائي رهِيب وقال: أصبحتُ غريباً في موْطِني، وغُربتي لا أجِدُ لها من أحَدٍ مُواسِيا، وتائِهٌ بلا بَوْصلةٍ في بَيْداء، وتَيْهي لا أحدَ لي فيه مُرشِدا، فأين ملاذي بِغيْرِ وجُودِها، وأين ملجَئي في غِيابِها؟
أغْمَضَ عينيه بُرهةً، وهو يُقاوِمُ انْهِمارَ سَيْلِ دمُوعٍ حارِقة، والقلبُ منْشَطر في كَمَد، فسَمع صوْتا في داخِله يقول: هُناك ! …