انزياح اللغة وأزمة التعبير: دراسة في شعرية الوجود والغياب “بعدَ أن يَستيقظَ الكلام” للشاعرة السورية فخر هواش

ذ سعيد محتال

في هذا العالم المضطرب، حيث تتلاشى الثوابت وتغترب الذات عن محيطها، يصبح الشعر محاولة جريئة للتعبير، لكنه يصطدم أحيانا بعجز اللغة عن استيعاب المعنى المتفلت. هنا تتجاوز الانزياحات اللغوية وظيفتها الجمالية لتصبح أداة مقاومة وجودية في مواجهة الصمت. لتقدم لنا الشاعرة في هذا النص مثالًا حيًا لهذه المعركة، حيث تحاول جاهدةً أن تجعل الكلمات تمسك بالشمس، لكن الليل يبتلعها. تسعى لتطهير ذاكرتها من الصمت، لكنه يظل عدوًا كامنًا للمعنى. إنها رحلةٌ لاستكشاف تلك المسافة الشاسعة بين الكلمة والمعنى، بين الذات والحقيقة.
في النصِّ الشعريِّ الذي بين أيدينا، تتعدَّدُ الطبقاتُ الدلالية والموضوعات التي يمكن تحليلها نقديّا، ولكن تبرز تيمةُ الصراع بين الكلام والصمت كأبرز محورٍ يمكن التقاطه، وإخضاعه للبحث والتقصي لعلنا نقف أمام سر هذا الجمال المتدفق بلا وجل، ليأخذنا إلى عوالم انفتح عليها النص بانزياحية قوية حول الوجود، الذاكرة، الغياب، الإبداع، والبحث عن المعنى. إن هذه المحاولة للتعبير عن الوجود في مواجهة الصمت تتجسد بقوة في استخدام الشاعرة للغة والإبداع كأدوات مقاومة.
* تيمة الصراع بين الكلام والصمت:
يبدأ النص بصورة استيقاظ الكلام وإمساكه بالشمس، وهو استعارة قوية لبداية إبداع شعري مرتبط بالإشراق، حيث:
“يَستيقظُ الكلامُ ويُمسكُ الشَّمسَ من غرَّتها”، مما يُشير إلى لحظة ولادة اللغة أو الإبداع من العدم (الصمت). انزياح يُحوِّل اللغةَ إلى كائن حيّ قادر على خلق الضوء وإيقاظ العالم، مما يُعزِّزُ فكرةَ قوّةِ الإبداع في مواجهة الصمت. هذا التصوير الحي للغة يذكرنا بمفهوم قوة الكلمة الخلاقة في العديد من الفلسفات الشعرية.
لتعلن الشاعرة تنظيفَ ذاكرتِها “من الصَّمت”، وكأنَّ الصمتَ هنا رمزٌ للغياب أو الموت، بينما الكلامُ هو محاولةٌ لاستعادة الوجود عبر اللغة.
لكنَّ هذا الصراعَ لا ينتهي بانتصار الكلام، بل يعود الليلُ (الذي يرمزُ للصمتِ أو النسيان) ليطويَ الكلماتِ خلف “تلَّةِ الحكايات”، وكأنّ اللغةَ عاجزةٌ عن البقاء أمام زحفِ العتمة والغياب.
* اللغة والإبداع كوسيلة خلاصٍ مؤقتة:
لقد حاولت الشاعرة جاهدة مقاومةَ الصمت عبر التغنّي بالتفاصيل الكونيّة :
“أُسَرِّحُ ألفَ نَجْمةِ صُبحٍ”،
الانزياحُ في جعلِ النجوم قابلةً للتسريح (كالشعر الطويل أو الخيول) بدلًا من رؤيتها كأجرام سماوية، يمنح المعنى طاقة حركية تُعبّر عن سَعَة الخيال الشعريّ وقدرته على استكشاف اللامحدود،
“أتقصَّى ألفَ احتمالٍ واكتمال”،
بحث الشاعرة عن المعنى المطلق في زمنٍ نسبيٍّ، مع استحالة بلوغه (الاحتمال ≠ الاكتمال)، الجمع بين المتناقضات، الجمع بين ما هو غير مؤكد (احتمال) وما هو مطلق (اكتمال).. فكل قصيدة هي محاولةٌ ناقصةٌ لبلوغ الكمال، وكأنّها تؤذِّن لولادة المعاني الجديدة:
“كَمَنْ يؤذِّنُ لمواقيت الزهور”. هذا الربط بين الأذان (الدعوة الروحية) ومواقيت الزهور (التجدد الطبيعي) يعكس دور الشاعر كوسيط يكشف عن الجمال والمعنى الخفي في العالم.
كسر قيود المنطق لخلق عالمٍ شعريٍّ أكثر ثراءً، ليتحوّل دور الشاعرة كوسيط بين العالم واللغة :
“يَسترِقُ السَّمعَ لصلاةِ العطرِ”،
لكنّ هذه المحاولات تبقى هشّة أمام
“طعم المسافة بين الحقيقة ولوثة المعنى”،
أيْ أنّ اللغة لا تستطيع إدراك الحقيقة كاملة. فكرة “المسافة” هنا تشير إلى الفجوة الدائمة بين التجربة الإنسانية الغنية والمعنى الذي يمكن للغة أن تنقله بدقة.
هذه الانزياحات ليست مجرّد زخرفة بلاغية، بل هي أداة لتفجير اللغة، بكسر قيود المنطق لخلق عالم شعريّ أكثر ثراء. تُترجم صعوبة الإمساك بالمعنى المطلق (الحقيقة تتهرّب كالعطر بين الفراشات).
محاولات متتالية لتدشين جسر بين الواقع والمتخيَّل، من خلال إسقاط جو طقوسي تعبدي على الكلمات (الأذان، الصلاة) وكأن الشعر وجد لهذا الغرض، وهذا يتطلَّب قارئا ممارسا للخروج بتأويلات قابلة للفهم، وإلَّا ستتحوّل الانزياحات إلى غموضٍ مُفرط.
* الانزياحُ عن المألوف وإشكاليةُ المعنى:
يُقدم النص نموذجا مكثَّفا لانزياح اللغة الشعرية عن المألوف، مما يخلق إشكالية عميقة في توليد المعنى. انزياح ليس مجرد خروج عن القواعد، بل هو حالة إبداعية تُعيد تشكيل العلاقة بين اللفظ والدلالة، فالنص مليءٌ بالاستعارات الغريبة (“شفيفاً ناصعاً”، “صوفيٌّ بلا ظلٍّ”) التي تُضفي غموضًا شعريّا، لكنها تعكسُ أيضا “أزمةَ التعبير: فالشاعرة تبحث عن معنى في عالمٍ ينهارُ فيه اليقينُ (فما زالَ يحملُ لنا في ريقهِ طعمَ المسافةِ بين الحقيقةِ ولوثةِ المعنى). عبارة “صوفي بلا ظل” هي كناية عن الفناء والتصوف، حيث يرمز فقدان الظل إلى التخلي عن الذات الفردية والاتحاد بالروح الكونية.
حتى القصيدة نفسها باتت “عطشى” (نقل الصفة البشرية إلى العمل الأدبي) تائهةٌ في “تربةِ الفجائع”، وكأنَّ الإبداعَ محكومٌ عليه بالعطشِ الدائمِ لأنّه لا يروي غليلَ الواقع أو يُحرّر “ماءَهُ” (جوهرَهُ) إلا عبر الألم (“وجعٌ حنون”). الشيء الذي جعل الانزياحات تتكامل لخلق نصٍّ يتجاوز الوصف المباشر إلى فضاء التأويل المتعدد، حيث تصبح اللغة نفسها موضوعاً للانزياح، لا مجرد أداة للتعبير.
وهو ما يعبر عن حاجة النص الدائمة للتجديد، يُصور الإبداع كحاجة بيولوجية:
* “خجل ماء البداية بنا” : جعل الخجل صفة للماء بدلاً من البشر.
-“في ريقه طعم المسافة
بين الحقيقة ولوثة المعنى”:
مزج حاسة التذوق (الريق) بالبعد المجرد (المسافة).
تحويل المسافة المجردة إلى شيء ذو طعم.
جعل “لوثة المعنى” نقيضاً ملموساً للحقيقة. للتعبير عن صعوبة الوصول إلى المعنى الخالص.
-“تعصف بتربتها الفجائع”:
صارت الفجائع رياحا عاتية، فحولت الشاعرة التربة (الوسط الطبيعي) إلى تربة إبداعية، لتصور من خلال هذه الدلالة عملية الإبداع كصراع مع الرياح العاتية، وهو ما يعكس كيف أن المآسي تغذي العمل الإبداعي.
* “وراح بخرقته يدور”:
تحويل الحركة الدائرية إلى رمز وجودي، بجعل الخرقة (رداء الصوفي) محور الحركة ، تعكس دورة الحياة والوجود.
انزياحات، كما لاحظنا سابقا، تتجاوز مجرد الانزياح اللغوي لتصل إلى الانزياح الوجودي، حيث تعيد الشاعرة بواسطتها تشكيل العالم وفق رؤيتها الخاصة، محولة المفاهيم المجردة إلى كيانات حسية، والمشاعر الإنسانية إلى ظواهر كونية. هذا الانزياح الوجودي يعكس سعي الشاعرة لإيجاد معنى في عالم يبدو فاقدًا لليقين.

استنتاجات:
* العودة إلى الصمت أو التجاوز الصوفي:
ينتهي النص بصورة غامضة: “صرنا مثل صوفيٍّ بلا ظلٍّ”، وهي إشارةٌ إلى الفناءِ أو التجرُّدِ من الذات، حيثُ تذوب الشاعرة في المطرِ (الذي قد يرمز للوحي أو الغيب)، لكنّ هذه الذوبان لا يعني الانتصار، بل استسلاما لدوران لا ينتهي (“وراحَ بخرقتهِ يدور”).
النص كما يبدو يعالج أزمة اللغة والشعر في مواجهة الصمتِ والعدم، عبر استعارات وجوديّة وصوفيّة. الشاعرة تحاول تحرير الذاكرة من الصمت، لكنّها تصطدم باستحالة بلوغ الحقيقة الكاملة عبر الكلمات. تبقى القصيدة “عطشى” لأنّها تعيش في فضاء من الانزياح، حيث المعنى يُطارَد لكنّه لا يُدرَكُ أبدا، (كصراع الإنسان مع العدم) تجسد (إشكالية اللغة في التعبير عن المعنى).
هذا لا يعني غياب رؤية واضحة لدى الشاعرة،بل نلاحظ قوة حضورها في الحفاظ على تماسك النص رغم تعدد حركية انزياحاته، إذ قسمت النص من حيث البناء إلى ثلاث حركات شعرية متداخلة:
أ) حركة اليقظة (استيقاظ الكلام – تنظيف الذاكرة)
ب) حركة البحث (تسريح النجوم – استراق السمع)
ج) حركة الذوبان (الصوفي بلا ظل).

الإجابة عن الإشكاليات الجوهرية التي يعالجها النص:
* فجوة الدلالة (الحقيقة/لوثة المعنى)
* محدودية اللغة (القصيدة العطشى)
* استحالة الكمال (ألف احتمال واكتمال).
ليقدم لنا النص في نهاية المطاف نموذجاً شعرياً حيث تتحول أزمة التعبير إلى جمالية إبداعية يُعاد تشكيل العالم عبر انزياحات، ليصبح العجز اللغوي مصدراً للإبداع.
وهنا تتجلى أهمية النص في تحويله الانزياح من أداة بلاغية إلى رؤية وجودية، تطرح أسئلة الوجود والمعرفة عبر لغة شعرية مكثفة، مفتوحة على تأويلات متعددة. وهو ما يعكس ثراء النص، وقدرته على استيعاب طبقات دلالية متعددة. يقاوم التفسير الأحادي ويظل مفتوحاً على احتمالات لا تنتهي. بعد هذه الرحلة من الصراع اللغوي والوجودي، يتركنا النص مع شعور بالتأمل في حدود اللغة وقوة الإبداع في مواجهة الصمت، مؤكدًا على أن حتى العجز اللغوي يمكن أن يكون مصدرًا للجمال والمعنى.
سعيد محتال
المغرب

النص:
بعدَ أن يَستيقظَ الكلام
ويُمسكُ الشَّمس من
غرَّتها
و يهلِّلُ بينَ المشرقينِ
ُ بخفقانهِ العظيم ….
أكونُ قد نظَّفتُ ذاكرتي
من الصَّمت..
ومسحتُ غُبارَ الغيابِ
بشهدِ السَّنا….
قبلَ أنْ يَمُدَّ الَّليلُ جناحيهِ
ليطير وتتوارى
الكلماتُ خلفَ تلَّةِ الحكاياتِ
سأُسَرِّحُ ألفَ نَجْمةِ صُبحٍ
أتقصَّى ألفَ احتمالٍ
واكتمال
كمَنْ يؤذِّنُ لمواقيت الزهور
ويَسترِقُُ السَّمع
لصلاةِ العطرِ بينَ فراشتين..
وأبتهِلُ كالغيثِ الأبيضِ
عندما ينهمِرُ على
صدرِ العاشقين
وأرقُبُ وراءَ المدِّ
أطيافَ الرَّاحلين
أرنو إلى هسيسٍ
يَلُوكُهُ الأثير
إذ كيفَ يمرُّ وحيُ الضَّوء
بالأحداقِ مُنكسِراً……؟
خجلٌ ماءُ البدايةِ بنا
مُذ باغتَنا السُّكونُ
وأنكرَنا حتى الغمام
فما زالَ يحملُ لنا
في ريقهِ طعمُ المسافة
بين الحقيقة ولوثة المعنى
إثرَ التراكمِ والدليل
إلى غمرة من الصفاء
في فضاء التجيير
والقصيدةُ عطشى
تعصِفُ بتربتها الفجائِعُ
فكيف يحررُ ماءَها
وجعٌ حنون….؟
لكنَّا حينَ هطلَ المطرُ
شفيفاً ناصعاً
صرنا مثل صوفيٍّ
بلا ظلٍ تعانقَ ساعداهُ
وراح بخرقتهِ يدور…..!
الشاعرة فخر هواش




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.