بقلم الأستاذ سعيد محتال
هنا خط صغير
ونقطة بداية
هنا خط يتململ ويكره كل النهايات
ويمج الخطوة القصيرة
والنفس القصير القصير
هنا خط يكور كل الاسماء والمنعطفات
يكتب وصية بآلاف المعاني
ووهج اللمعات
الدكتور النصراوي الشرقي
في عالم النصوص الشعرية، تبرز بعض القصائد ككائنات حية تتنفس بالتناقضات، وتعيش على التوتر الدلالي الذي تخلقه الثنائيات المتضادة.
هذا النص الذي نحن بصدده ليس مجرد مجموعة كلمات، بل هو “كون مصغر” تُدار فيه صراعات وجودية وفكرية عبر ثنائيات ضدية: الصغير والكبير، البداية والنهاية، العابر والأبدي.
حيث تكمن عبقرية هذا النص في كونه يحوّل هذه التناقضات الظاهرية إلى نسيج دلالي متماسك، حيث يصبح التوتر بين الأضداد مصدراً للحركة والإبداع.
فالنص لا يقدم حلولاً لهذه الثنائيات، بل يجعل من صراعها دينامية جمالية لكل رواد الحرف تدفعهم إلى دوامة التأويل التي لا تنتهي.
هنا، تأتي أهمية هذه الدراسة من كونها تكشف كيف يمكن للغة الشعرية أن تتحول إلى عالم متفرد بثنائياته وتضاداته، تثري المشهد الأدبي، وتزيد من رونق جماليات لغته. ليولد “الخط الصغير” داخل هذا العالم، يكبر ليحمل “آلاف المعاني”، و”اللمعات” التي تشق ظلمة “المنعطفات”، لخلق رؤية فلسفية وجودية ملهمة، ترفض الثبات وتتمسك بحركية الإبداع، لنتكشف في نهاية المطاف كيف تتحول الثنائيات من مجرد تقابلات لغوية إلى أدوات توليد دلالي ، تصنع من التوتر فنّاً، ومن التناقض شعراً. يفرّ بمعية نسيجه نحو آفاق المعنى الواسع.
نص رغم قلة سطوره، نجده غني بمجموعة من العلامات التي تشكل نظاماً دلالياً يعكس رؤية صاحبه للوجود، الزمن، الحركة، والمقاومة.
فالخط هو مسار مرئي أو مادي، لكنه في النص يتحول إلى كيان حي “يتململ”، “يكره”، “يمجّ”، ليرمز إلى مسار الحياة أو الزمن، ووصفه بـ”الصغير” قد يشير إلى التواضع أو البداية الضئيلة: ”
“هنا خط صغير / ونقطة بداية” جملتان قصيرتان تعكسان البداية الضئيلة.
إيقاع متقطع سيعكس فكرة “التململ” وعدم الاستقرار، عبر هاتين الجملتين القصيرتين والمتتاليتين لتخلق حركة سريعة، هذا الخط الصغير .. “يتململ” ليعكس التمرد ورفض الثبات، و”يكره النهايات”، كراهيته للنهايات والخطوات القصيرة تُظهر رفض الموت أو الجمود، مما يوحي بالرغبة في الاستمرارية والأبدية.( هيمنة أفعال المضارعة ) حيث نفور الخط من التقييد أو البُطء، ورفضه للتفاصيل الصغيرة التي تعيق الحركة، وكأنه يرمز للإنسان الذي يسعى إلى الحرية والتجاوز.
وقد يكون الخط (الحرف – الكلمة) رمزاً للفكرة أو الإبداع الذي لا يتوقف، يكتب “وصية بآلاف المعاني”، أي أنه يخلق دلالات لا تنتهي.
وتكرار كلمة “القصير” يُؤكد على محدودية اللحظة والرغبة في تجاوزها؛
الخطوة القصيرة هي حركة محدودة، والنفس القصير يشير إلى ضيق الأفق.
لحظة زمنية تُشير إلى تجاوز العوائق (المنعطفات) وإلغاء التقسيمات (الأسماء)، وكأن الخط يريد اختزال العالم في حركة واحدة لا تتوقف في”وصية” قد تكون الغاية من رسالة الخط/الشاعر للعالم، وهي غنية بالدلالات المتعددة (“آلاف المعاني”)، مما يوحي بثراء التجربة الإنسانية، “ووهج اللمعات”التي تُذكرنا بالشرارات الخاطفة، ربما إشارة إلى اللحظات المضيئة رغم قصرها، أو الأفكار العابرة التي يلتقطها الخط.
وهنا التكوير هو اللف أو الجمع، والأسماء والمنعطفات تمثل التقسيمات والعقبات، يكور الأسماء” قد يعني إلغاء التصنيفات والحدود، وكأن الخط يريد أن يختزل العالم في جوهر واحد لتجاوز العقبات”المنعطفات” التي ترمز إلى الصعوبات، وتكويرها يعني تذليلها أو تجاوزها.
الوصية هي رسالة أخيرة، لكن هنا هي غير محدودة. قد تكون الوصية رمزاً للإنتاج الفكري أو الأدبي الذي يحمل معاني لا تنتهي.. مما يعكس غنى النص بتأويلات متجددة.
ممزوجة ب “وهج اللمعات” (رمز الإشراق واللحظات الخاطفة)
اللمعات هي ومضات ضوئية سريعة.
فهل النص من جنس هاته اللمعات الخاطفة المباغتة..
إنها بلا شك تلك اللحظات المضيئة، والأفكار العابرة أو اللحظات الإبداعية التي تضيء العتمة.
زمن سرعة الحياة وتلاشي اللحظات الجميلة. ليبقى الإبداع كخلاص، وكوصية واللمعات توحي بأن الإنتاج الفكري هو ما يبقى بعد تجاوز القيود.
الرؤية الكلية للنص:
بني النص على ثنائيات متضادة تُولد التوتر الدلالي
التي لا تخلق تناقضاً فحسب، بل تُنتج توتراً دلالياً ديناميكياً يُغني النص ويفتحه على تأويلات متعددة. هذه الثنائيات ليست مجرد تقابُل سطحي، بل تعكس صراعاً وجودياً وإبداعياً عميقاً:
– الصغير vs الآلاف
– ضآلة البداية vs سعة المعاني.
– الخطوة القصيرة vs النهايات المكروهة
– التفاصيل الصغيرة vs الأبدية.
– المنعطفات (العقبات) vs اللمعات (الومضات الإبداعية).
ولك أن تتصور كم سيستغرق من الوقت للوقوف أمام هذا الخط الذي قد لا يتوقف رغم قصر المسافة المكانية لكنه ممتد إلى آفاق واسعة من القراءات والتأويلات كأنك تتبع مسار شعاع لامع في السماء ..
إذ كيف يمكن لشيء “صغير” أن يحمل “آلاف المعاني”؟
هذا التناقض الظاهري يُظهر قدرة البدايات المتواضعة على التحول إلى عوالم شاسعة إشارة إلى:
– قوة الإبداع: الفكرة الصغيرة قد تتسع إلى آلاف الدلالات.
– الوجود الإنساني: الإنسان يبدأ ضعيفاً لكن طموحاته لا حدود لها.
ليذكرنا النص بالهشاشة الأولى، مثل بذرة أو شرارة صغيرة.
والاشارة إلى التناقض بين المادي (المحدود) والروحي (اللامحدود)، يتجانس مع البداية المادية الضئيلة، التي تتسع للمعاني المجردة إلى ما لا نهاية. هذا يُجسد:
– صراع المادة والفكر: الجسد محدود، لكن الفكر حر.
– الكتابة الشعرية: القصيدة القصيرة لكنها تحمل عوالم كاملة. وهذا ما يعكس صراع اللحظة العابرة مع بعد الأفق، وقوة التطلعات إلى الأفضل..يُحفز المبدع والمتلقي على البحث عن المعاني الكبرى وراء التفاصيل.
هذه الثنائيات ليست متنافرة، بل هي أجزاء من وحدة كبرى، مثل:
– الليل والنهار → معاً يصنعان الزمن.
– المحدود واللامحدود → معاً يصنعان الوجود.
كون النص يُشبه كائناً حياً يتنفس بهذا التوتر، ويُعلّمنا أن الجمال والمعنى يولدان من الصراع:
* علاقة تضاد: (الصغير ↔ آلاف) – (القصير ↔ اللمعات)
* علاقة تطور: (نقطة → خط → وصية)
* علاقة سبب/نتيجة: (التململ يؤدي إلى التكوير)
الدلالة الرمزية للنص:
– الخط كرمز للوجود الإنساني: يسعى إلى التحرر من المحدوديات (الزمن، الموت، التقسيمات) عبر الحركة الدائمة والإبداع (“الوصية” و”اللمعات”).
– رفض الثبات: النص يُجسد فلسفة تمجد الحركة والتجاوز، شبيهة بفكرة “الإنسان الكائن المشروع” عند الوجوديين، الذي يُعرف نفسه بالفعل لا بالثبات.
السياق الثقافي:
قد يُقرأ النص في ضوء ثقافة تمجد “المقاومة” (مقاومة فعل الكتابة ): (رفض النهايات/المنعطفات) والدعوة إلى الانفتاح أكثر على”الإبداع”:(الوصية واللمعات)، وكأن الشاعر يُحول القلق الوجودي إلى طاقة إبداعية.
خاتمة:
النص عبر علاماته السيميائية (الخط، النهايات، اللمعات…) يُشكل عالمًا دلاليًا يعبر عن تمرد على المحدود وسعي نحو اللامتناهي.
اللغة هنا موجزة لكنها تحمل “آلاف المعاني” عبر الانزياحات (كره النهايات، تكوير الأسماء)، مما يجعل النص منفتحًا على تأويلات متعددة.