ذ / سعيد محتال
الحديث عن حرية التعبير موضوع قديم قدم تواجد الإنسان على البسيطة ، شغل بال الكثيرين من الفلاسفة والمفكرين والأدباء، ذلك لأن التعبير يعد الوسيلة الأكثر التي يستطيع من خلالها الإنسان إظهار أفكاره ومشاعره للآخر، والتواصل مع غيره.
وقد ذكر لنا القرآن الكريم العديد من نماذج الحوار منذ آدم عليه والسلام ونورد نوذجا يخص نبي الله ابراهيم مع نمرود الذي قال فيه تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)البقرة :258.
نموذج يمثل بحق طبيعة الجدال الذي كان قائما بين الرسل عليهم السلام وأقوامهم.
ويمكن التمييز بين صنفين من التعبير : شفهي وكتابي .
أما عن مفهوم الحرية
فقد جاء في بعض المعاجم ” : الحر ضد العبد ، وحر الوجه: ما بدا من الوجنة، … وتحرير الكتاب وغيره تقويمه، وتحرير الرقبة عتقها، وتحرير الولد: أن تفرده لطاعة الله وخدمة المسجد،
ومن هذا المعنى جاء في القرآن الكريم على لسان امرأة عمران أم مريم عليهما السلام: ( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) آل عمران: من الآية 35.
وهي جمع حُرِّيَّات ، وهي ” حالة يكون عليها الكائن الحيّ الذي لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة ويتصرّف طبقًا لإرادته وطبيعته، خلاف عبوديّة ” .
أما مفهوم الحرية كما حددتها المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر سنة 1789م: ” هي قدرة الإنسان على إتيان كل عمل لا يضر الآخرين.”
وفي الشرع الإسلامي:
” هي ما يميز الإنسان عن غيره، ويتمكن بها من ممارسة أفعاله وتصرفاته بإرادة واختيار، من غير قسر ولا إكراه، ولكن ضمن حدود معينة، أهمها تحقيق الصالح العام، وتجنب الإفساد، وإضرار الآخرين”.
من خلال التعريفين نلاحظ ان لحرية التعبير خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها ، منها إكراه الآخر على تبني الأفكار و المعلومات وأحيانا بالقسر، فالفرد له حرية الاعتقاد وتبني الأفكار التي يؤمن بها كما انه لابد من احترام حرية وحقوق الآخر، وتجنب إلحاق الضرر بهم.
يقول سبحانه وتعالى : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) الكهف: 29 .
فالإنسان له كامل الحرية في إبداء الرأي الذي يقتنع به وفي التعبير عنه، غير أنه مسؤول عن النتائج،
قالى تعالى : ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها) الشمس: من 7إلى 10 .
فنحن نشاهد اليوم مدى الحملة الشرسة التي تمارس على المسلمين المقيمين بالغرب بفرض نمط عيش يخالف عقيدتهم ، وهذا ما أدى الى رفع نسبة الكراهية بين الشعوب ، وكلنا نتذكر الإرشاد النبوي الذي دعا فيه أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة اذ يوجد بها ملك لا يظلم عنده أحد،
بذلك فالإسلام من هذا المنطلق يدعو الى احترام الرأي الآخر وعدم تسبب في إلحاق الضرر بالآخر سواء بالعنف أو الإكراه. يقول تعالى : ( لا إكراه في الدين).
وهذا يتطلب منا الوعي بحقوقنا ومعرفة الواجب حتى لا نتسبب في تجاوز الحدود سواء كنا مسلمين أو غير مسلمين لأن كرامة الإنسان فوق كل اعتبار. يقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) سورة الإسراء :70.
إن حرية الفكر والتعبير تعد أحد حقوق الشرعية للإنسان الكبرى، والتي تستجيب ومتطلبات فطرة الإنسان، وضرورة العيش المشترك مع الجماعة. يقول سبحانه وتعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). الحج: 46
كما أن الإسلام لم يمنع من وجود ظاهرة المعارضة أو الخلاف في الرأي، ولكن دون تجاوز الحدود التي رسمها الله سبحانه وحذر العباد من تجاوزها كالتطاول على الذات الإلهية وسب الرسول صلى عليه وسلم من طرف المسلمين أما غير المسلمين فالجدال قائم على ” بالتي هي أحسن “.
قال الله تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) البقرة: 170.
وقال الله تعالى: ( وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شاء فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بماء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) الكهف: 29
حرية التعبير عن الرأي ليست مطلقة كما يتصور أي إنسان، وإنما هي حرية مقيدة ضمن دائرة الشرع والقانون، وإلا عمت الفوضى وكثر التطاول والخصومات بين الناس، احترام ظاهرة الاختلاف بين الناس مقبولة إلا أنه لا يجوز السكوت عن الحق والدفاع عنه لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله أو طلب منه: ( لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ، ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا كذا وَكَذَا، فَيَقُولُ: خَشْيَةُ النَّاسِ، فَيَقُولُ: فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى، فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى). رواه ابن ماجه.
فكما هو معلوم فإن جميع التشريعات والديانات سطرت قوانين وحددت ضوابط ترتبط بالأصول العقدية والتصوّرات الأساسية ، كما هو شأن مسألة حرية الرأي والتعبير، فهي تندرج وتمارس ضمن الأولويات ، وفي إطار من الشعور بتحمل الأمانة والمسؤولية والمحاسبة الذاتية قبل المحاسبة من طرف الآخر.
إن رسولنا صلّى اللهُ عليه وسلّم لم يكن يكتفي بالتبليغ والبيان والإفهام، بل كان يسهر بنفسه على تطبيق وتنبيه الناس للتعاليم الشرعية وحدود مجال الحوار والجدال ، وتعليمهم كيف يمارسون حقوقهم وكيف يدافعون عنها دون إخلال بالنظام العام كما هو موقف آل ياسر حين خاطبهم وهم يعذبون : ( صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ، فما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلى ممارسة العنف أو الإكراه على أحد ولو مع امرأة عجوز، قصة المرأة التي جاءت تشتكي زوجها إلى رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وتجادله فيما قال لها، فأنزل الله فيها قرآنا يتلى على الناس إلى يوم الدين: ( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) المجادلة:1.
إن حرية التعبير تحتاج إلى ضوابط وقيود بسبب ما قد تتعرّض له من سوء استعمال وسوء تصرّف حتى تساهم بشكل جلي في الرقي بالمجتمع. إن المجتمعات التي يسودها الحوار والإنصات الجيد واحترام الرأي الآخر لا شك أنها ستحرز المراتب الأولى على جميع الأصعدة فمن بين هذه الضوابط مثلا:
– عدم ممارسة تضليل الناس ونشر الأكاذيب والأخبار الزائفة.
– تجنب التعصب للرأي
– حفظ حرمات الناس وأعراضهم.
– الوقوف الى جانب الحق حتى لا يعم الظلم وينتشر الفساد.
عموما حرية التعبير يجب أن تمارس في حدود الحق والنفع العام والاحترام المتبادل، ولا يجوز استغلالها للأذية بشتى الأشكال والأفعال ، فالاحترام هو المنطلق الأساسي لنهضة المجتمعات.