الغيم…

ذ سعيد حجي

لا اعلم لماذا وجدت نفسي فجأة في هذا الجو الاقرب للمُمْطر أجلس هنا في ناصية الشارع ، بلا وعي، ربما هو انجراف عفوي، وربما انسياق داخلي لما لا يمكن شرحه بسهولة. كأن الغيم حين يتلبد في السماء يستخرج من الداخل أشياء كنا نظنها نائمة، فيبعث فيها حياة مباغتة. في لحظات الغيم، كأن القلب يتخلى عن عناده، ويصير أكثر رغبة في قول ما لم يُقل….
دوستويفسكي لمح إلى هذه الحالة حين همس يوما : حين تتلبد السماء بالغيوم، تستيقظ فينا رغبة للبكاء… كأنها تشجع القلب على الاعتراف. الغيم في دواخلنا ليس حالة مناخية فقط ، بل مرآة وجودية، تعرض أرواحنا عارية من التجميل، مجبرة على التماهي مع صمتها الداخلي…
هناك ارتباط لا واعي بين الغيم وبين الذكرى، كأن السماء وهي تتحول إلى رمادية، تسحب من اللاوعي مزيجا من المواقف، الخيبات، اللحظات التي لم تنته كما تمنينا، والضحكات التي أُطفئت قبل وقتها. الغيم لحظة مؤقتة، لكنه يملك القدرة على فتح ملفات قديمة في داخلنا، تماما كما يفتح الشتاء أبواب البيوت المقفلة بالرغبة في الدفء، يفتح الغيم أبوابا في النفس كانت موصدة….
” سيوران” تحدث عن لحظة الانكسار الكوني حين قال إن أكثر اللحظات صدقا هي تلك التي تعتقد فيها ان كل شيء على وشك السقوط، تماما كما الغيم الذي يسبق المطر… هو اكتمال انهيار في الجمال…
هذا التوتر الذي يخلقه الجو الغائم هو في جوهره تمهيد انطلوجي فلسفي عميق ، اذ يجعل الكائن يعود الى شعوره الاول، شعور الانفصال عن الطبيعة، ورغبته الدفينة في العودة اليها. نشعر في الجو الرمادي اننا نحتاج الى تصالح مع المجهول، والى اعترافات مع الذات، كأننا نحتاج الى ان نقول شيئا لأنفسنا، لا لغيرنا….
نيتشه، كان يرى ان السكون الذي يسبق العاصفة ليس فقط مؤشرا للاضطراب الخارجي، بل هو اشارة للداخل الانساني الذي يكتم ذاته دهورا، فينفجر فجأة، كما السماء تماما…
الغيم هو استعارة حية لفوضى الوعي، وهدوء ما قبل الانفعال. هو دعوة مفتوحة للتأمل، والانغماس في مجاز الذات، لا من أجل الهروب، بل من أجل التفسير. الغيم ليس حزنا، بل هو حالة انتقالية بين لحظة فهم وأخرى…
في النهاية، الغيم لا يُفسر، بل يُحسّ. وكل من جلس تحت سماء غائمة، شعر في لحظة ما انه يجلس داخل نفسه، لا على الرصيف. وكأننا حين ننظر الى السماء، نحدق في مرآة غير مرئية، تكشف لنا ما لا تقوله المرايا الزجاجية.
ذلك ان الذات، في الغيم، لا تعود كما كانت، بل تصير أكثر هشاشة، لكنها أيضا أكثر صدقا…




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.