بقلم سعيد حجي
مزقت نِعالي ذهابا وإيابا في زقاقها معتقدا أنها كانت تلوح لي، وكلما رفعت رأسي نحو نافذتها، شعرت أن لحظة اللقاء توشك أن تنبعث من رحم هذا المساء الباهت…
لكنني، بعد كثير من الرجاء البصري، اكتشفت أن كل تلك الإشارات لم تكن سوى قطعة قماش خلف زجاج قديم، تعبث بها رياح سبتمبر العابرة…
كل ما كان يبدو مشبعا بالدلالة، لم يكن في الحقيقة سوى عبث الطبيعة بما تبقى من الوهم…
أحيانا لا نحتاج إلى أكثر من خدعة صغيرة كي نواصل الحياة..
قطعة قماش تتحرك خلف نافذة، تكفي لتعيد الأمل إلى روح انتظرت طويلا، بل تكفي لتُبنى عليها قصص وهمية، وأحلام غير مكتملة، ورسائل لا تجد طريقها إلى البريد.
هل كنا نحب حقا، أم كنا نحب الفكرة التي نسجناها عن الآخر؟
أليس معظم الحب الذي نحمله، ما هو إلا ارتطام متكرر بأحلام نسقطها على وجوه لا تشعر بوجودنا أصلا؟
كما قال الفيلسوف آرثر شوبنهاور: “الإنسان لا يرى العالم كما هو، بل كما يريد أن يراه”.
ولعلني في تلك اللحظة لم أر النافذة، ولا القماش، بل رأيت شبح التي كنت أبحث عنها في كل زقاق وواجهة وحرف.
رياح سبتمبر لا تتحرك عبثا…
هي رياح تخلخل ما نظنه ثابتا، تزيح الغبار عن صور قديمة عالقة في الذاكرة، وتتركك تائها بين الحقيقة والوهم.
أشبه ما تكون بحكمة الفصول، تقول دون أن تتكلم: كل شيء قابل للزوال، حتى الشعور الذي سكنك يوما.
كان الزقاق ذاته يحمل عبق الخريف.
ذاك العطر الممزوج برطوبة الجدران وبقايا الصيف،والذي يجعل النفس تميل للتأمل وتغرق في شجن لا تُفسره الكلمات.
هل كان ذاك الشبح الذي طل من خلف النافذة شخصا حقيقيا؟ أم مجرد استعارة زرعتها الذاكرة كي لا تنهزم؟
ربما، وربما كنتُ أنا من اخترعتها تماما كما اخترع العقل أسطورته حول السعادة…
“إننا لا نقع في حب الآخرين بقدر ما نقع في حب الطريقة التي تجعلنا نشعر بها”، كما قال ألان دي بوتون.
ربما لم تكن تلوّح، وربما لم تكن حتى هناك،
لكنني كنت أحتاجها، فقط لأشعر أنني ما زلت قادرا على الانتظار، قادرا على الاعتقاد بأن خلف نافذة ما، شخص يبادلني الإشارة، حتى لو كانت زائفة…
قطعة القماش تلك ليست مجرد ستار.
هي تمثيل واضح لحقيقتنا البشرية في أوضح صورها.
نركض خلف رموز، نخلق معاني حيث لا توجد، نكتب الشعر على دخان السيجارة وننتظر أن ترد الروح من الغياب.
في النهاية، عُدت أدراجي.
لم أجدها ، ولم يهدأ قلبي، لكنني كنت على يقين أن هناك دوما نافذة ما، وقطعة قماش، وخيال مفرط الحساسية،
سيجعلني أركض من جديد، في زقاق جديد، نحو وهم آخر،
يشبه الحب، ولا يُشبهه…