أوهام النخبة و نقد المثقف….

ذ/ هشام حسنابي بتصرف

ربما كان ما قدمه المفكر علي حرب المثقف العربي و هو حالة العجز و العزلة التي هو عليها ، ربما هو النقد الأكثر إثارة للجدل في هذه القضية المتعلقة بالثقافة و تعريف المثقف و نقد المثقف… و هناك مفكرون كبار غربيون أو عرب تصدوا لهذه القضية سواء تعريفا أو نقدا ، ويبدو ان المفكر علي حرب و منذ أن طرح هذه القضية في كتابه -الأكثر من رائع – و هو” أوهام النخبة و نقد المثقف” المثير للجدل والردود المستمرةعليه ، و قد استطاع على حرب أن يفكك الكثير من المقولات التي غدت كليشيهات ثابتة ، وشكلت كمثل أوهام المثقفين و افقدتهم القدرة على قراءة الواقع و التفاعل معه و مع قضايا و اشكالياته ، و لا ابالغ إن قلت أن علي حرب فعلا عرى المثقفين النخبوين العرب ، و ذلك عندما توغل أركيولوجيا داخل العقليات و الذهنيات المنضوية تحت مظلة الثقافة ، و خاصة تلك الفئة المتعالية منهم ، فأسقط بالتالي منظومتهم الشمولية و أعادهم إلى حجمهم الطبيعي، طبعا علي حرب لم يرد أسباب حالة المثقفين المزرية هذه إلى مجرد أسباب تاريخية أو اجتماعية أو سياسية كما جرت العادة ، لا بل ردها إلى القصور الذاتي عند المثقفين أنفسهم ، و إلى بنية الفكر الذي يمارسونه ، معتبرا أن أزمة المثقف العربي الحقيقية تتجلى في كونه ضحية لأفكاره ولأوهامه ، و بذلك فمشكلة المثقف العربي الأولى و الأساسية كما يرى علي حرب مع نفسه قبل كل شيء آخر .
إن مشكلة المثقف كما يرى حرب هي مع نخبويته و وصوله إلى مرحلة من التنظير، تعالى فيها فوق الحقيقة و واقع المجتمعات الفعلي ، و هذا طبعا أدى كما يرى حرب الى أمر من اثنين ، ا ما إلى انفصاله عن هذا الواقع و المجتمعات و أصبح بالتالي هامشيا ، و أصبح عاجزا عن تقديم أي اطروحات فكرية تجيب عن أسئلة الواقع بسبب ابتعاده عنها ، و إما انه أصبح مجرد ناطق باسم السلطة السياسية الممسكة بالقرار ، و في كلتا الحالتين ابتعد هذا المثقف عن الدور الذي من المفترض أن يلعبه بوصفه قاطرة تعمل على تحريك المجتمع ، دافعة إياه نحو التقدم أو إلى الأمام ، يعزو علي حرب هذا الانحصار للتاثير وهذا التقمص للدور إلى مجموعة من الاوهام التي تملأ عقول المثقفين أنفسهم على نحو جعلهم يظنون بأنهم الأوعى أو الأعلى و الأحق بتقديم رؤى و أفكار يقينية للواقع ، و تكون غير قابله للنقد أو الاعتراض عليها و حتى لمجرد مناقشتها ، لأنهم كما يتوهمون نخبة المجتمع و هم كما يظنون صفوة هذا المجتمع و طليعة الجماهير و ضمير الأمة .
يحدد علي حرب و يعدد خمسة من هذه الاوهام التي عششت داخل عقول النخب الثقافية ، و التي كما يرى هي المسؤولة على حالة العجز و الفشل التي هم عليها ، وهذه الاوهام الخمسة هي وهم النخبة و وهم الحرية و وهم الهوية و وهم المطابقة و وهم الحداثة …
و سأشرح باختصار و تبسيط معنى كل واحد من هذه الأوهام الخمسة :
– وهم النخبة : و المقصود به ذلك التعالي و الغرور و النرجسية التي عليها أغلب المثقفين العرب ، فالمثقف و المفكر العربي كما يقول علي حرب نصب نفسه وصيا على الحرية ووصيا على الثورة ، و حتى نصب نفسه رسولا للحقيقة و أمينا على المجتمع ، و مقررا لما هو في مصلحة الشعب و الوطن ، معتبرا بذلك أنه هو الأعلى منزلة و هو الأعلى شأنا من كل منهم في محيطه ، طبعا هذا ما جعله ينسلخ عن الواقع و يغرق في اوهام نخبويته ، و هذا الوهم في النهاية قاده إلى عزلته عن مجتمعه و عن واقع هذا المجتمع الفكري.
و طبعا الأمثلة و النماذج كثيرة جدا، مثلا نرى هذا المفكر أو المثقف منعزلا في صومعته أو في مقهى ما يرتاده في زاوية منه بعيدا عن الناس، منفردا بافكاره المثالية و الأفكار الطوبوية المجردة ، و باحثا في جنس الملائكة ، بينما المواطن العادي يلهث وراء تأمين قوته اليومي أو يعاني الأمرين جراء الاوضاع المتردية على كل المستويات ، و لذلك يذهب علي حرب إلى أن أغلب أفكار هؤلاء عندما تجري محاولة مثلا لتطبيقها على أرض الواقع ، فإنها في أغلب الأحيان تبوء بفشل و تأتي بنتائج مغايرة أو معاكسة تماما ، و السبب طبعا هو عزلة هذا المثقف و انفصاله عن المجتمع ، و انفصاله عن الناس الذين يدعي أصلا أنه يفكر نيابة عنهم ، و حتى عندما يتكلم هذا المثقف مع الناس نراه يخاطب العامة بشكل عام بلغة معقدة وبمصطلحات صعبة جدا تحتاج أصلا لقواميس تفكيك معانيها، فهذا كله من سمات التعالي و من سمات النرجسية و النخبوية التي يحيا في داخلها أو من ضمنها هذا المثقف العربي طبعا، من هنا يدعو علي حرب هذه الفئة من المثقفين إلى التواضع و أن ينزلوا قليلا من ابراجهم العاجية ، و أن يعترفوا بأنهم ليسوا نخبة المجتمع أو صفوته ، لأنهم في نهاية الأمر هم قطاع من قطاعات المجتمع كأي قطاع آخر ، و في نهاية الأمر يمارسون مهنة كسائر المهن و عليهم أن يثقنوها بدلا من أن يتباهوا بها، و يرى على حرب بأن هؤلاء المثقفين بقدر ما سيتخلون عن نخبويتهم هذه ، وعن شيء من نرجسيتهم بقدر ما سيصبحون أقدر على ممارسة فاعليتهم و تأثيرهم على المجتمع و مقاربتهم بشكل صحيح لأحوال الواقع المعاش
*أما ثاني الأوهام فهو وهم الحرية : و الذي يعاني منه المثقف العربي و هو اعتقاد ه أن بإمكانه تحرير المجتمعات و من التبعية و الجمود و العبودية و التقليد و من اشكال الفقر و التخلف ، و بأنه يرى في نفسه هو الأقدر ، لأنه الأكثر فهما لجوهر و معنى الحرية السامي ، بينما هو في الواقع ينادي بالحرية من جهة ، لكنه يمارس أيضا الاستبداد أقله الاستبداد الفكري…. من جهة أخرى نراه متشبثا بآراءه و أفكاره وبأيديولوجياته ، و بالتالي يريد تعميمها على الآخرين ، و يريد أن يمارس التسلط الفكري على الآخرين بتعميم أفكاره و عقائده هو ، لا بل أن هذا المثقف لا يقبل حتى مجرد المناقشة فيها فضلا طبعا عن نقده… عن أي حرية يتحدث؟ عن أي مفهوم الحرية ينظر له هذا المثقف؟ و أيضا من تجلياته هذا الوهم هذا المثقف العربي أنه يحول نفسه إلى مثل داعية تحرر فيلجأ للترويج و الاستهلاك لنفسه على أنه صاحب رسالة لا صاحب سلطة لكن غالبا ما ينتهي هذا الأمر بإستبدادية و سلطوية على الجماهير و على عقولهم و أما بالفشل الذريع… فمشكلة المثقف هي ليست مع الدولة أو مع السلطة ، بل هي كما رأينا مع أفكاره و طرقه الفاشلة في مقاربة مفهوم الحرية التي ينادي بها ، ولذلك يدعو المثقف للتخلص من تهويماته التحررية كما يسميها ، وإلى الانخراط في عملية إنتاج المعرفة و الفكر التنويري الحر هذا الفكر الحر القادر فقط على تغيير و تجديد الذهنيات المتحجرة القديمة لأن العالم أو المجتمع لن يتغير لن يتحرر إلا بقدر ما تتغير المفاهيم و الادوات الفكرية
*اما الوهم الثالث وهم الهوية : فهو اعتقاد المثقف والمفكر أن بإمكانه أن يبقى كما هو ، أن يبقى محافظا على أصوله و منابعه الفكرية و الثراثية.. و هذا وهم يجعله متقوقعا على نفسه و عاجزا عن التجدد و عن الإبداع ، بمعنى أن المثقف العربي إذا بسطنا الأمر هو يهتم فقط بهويته الفكرية ، يعني أنه يهتم أكثر بمعرفة الوقائع و المفاهيم الجديدة أو انتاج الأفكار ، فجل ما يهمه هو إعلام مسه الصريح بهذه العقيدة و الدينية أو الفكرية أو إلى تلك الأيديولوجيا و الدفاع عنها و حراسة أفكارها ، و هذا يدفعه بالمقابل الى إنكار ما هو واقع و إلى ممارسة نوع من المكابرة و المعاندة و يستوي هذا الأمر عند كل أصحاب المشاريع الفكرية المنطلقة من هوية ثقافية فكرية مسبقة سواءا كانوا اسلاميين او تقدميين او قوميين او لنقل سواء كانت هذه المشاريع الفكرية هي إسلامية ام تقدمية أو قومية ،اشتراكية الخ..فكل ما يشغل بال هؤلاء هو فقط كما قلنا حراسة افكارهم حراسة ما يعتقدونه حقيقة في مواجهة الواقع و تطوراته و تغيراته و بذلك كما يرى حرب هم يحتكرون الحقيقة و ينكرون ما عداها لا بل ينتقدون كل رأي مغاير لها و هذا وهم كبير جدا يبعد هؤلاء عن النقد الحقيقي الذي يجب أن يكون عليه المثقف أو الذي يجب أن يمارسه المثقف و هو النقد الذاتي و فحص الثوابت و القصص الثابتة و المترسخة في العقل ، أيضا ضمن إطار هذا الوهم أن الفكر ليس صندوقا مغلقا و أفكار و رؤى بعينها ، بل إن جوهر الفكر هو في جدليته في كفاحه على الأفكار الأخرى على العقائد و اللغات و الأقوام المختلفة على كل الأفكار الجريئة و المختلفة، هكذا فقط يرتقي الفكر و يتجدد ، و ليس بالتمدرس خلف وهم للحفاظ على الهوية .
*اما الوهم الرابع فهو وهم اسماه علي حرب وهم المطابقة : و هو كما يرى وهم أشبه بوباء متفش بين جميع المثقفين العرب ، و حتى عند غير العرب من مثل سمة أو طبع عند أغلب المفكرين الذين يعتقدون او بالأحرى يتوهمون أن الحقيقة هي كمثل جوهر ثابت، هي شئ سابق على التجربة متعال على الممارسة ،و يمكن بالتالي إسقاط هذه الفكرة التي يعتقدون بأنها حقيقة ثابتة على الواقع مباشرة و تطبيقها من دون النظر الى الظروف الموضوعية و الواقعية و لا في اشكاليات الواقع و اختلافاته و تعقيداته و طبعا هذا ما ادى علي حرب الى نتائج سلبية و كارثية و شواهد كثيرة جدا كمثل تعامل المثقفين العرب مع فكرة الوحدة العربية هذه الفكرة التي انطلقو بوصفها حقيقة ثابتة و مقدسة لا تحتاج لاي تجريب و انطلقوا من مسلمة مسبقة لديهم مفادها أن العالم العربي الذي يريدون توحيده هو في الاساس كيان واحد ذو بنية واحدة متشابهة و كيان لا فروقات في داخله مثلا كان سابقا موحدا و لا بد من أن تتحقق هذه الوحدة لانها الأصل و كل ما نراه داخل العالم العربي من اختلاف و تنوع، ما هو إلا شيء مصطنع سيتبدل و سينتهي مباشرة بتحقيق هذه الوحدة و طبعا اعتقاد ساذج جدا ووهم كبير وهم يعمل على مطابقة الواقع و هذا قفز فوق الوقائع لم ينجم عنه سوى المزيد من التنابذ و الفرقة بعكس ماكان متوقعا تماما ،اما سبب هذا الأمر أننا بدءنا من فكرة مسبقة اعتبرناها بمثابة حقيقة ثابتة تقول إننا وطن واحد و شعب واحد و هوية واحدة و هكذا صادرنا على المطلوب و لم نجني سوى المزيد من الحواجز الوطنية و العرقية و المذهبية و الحزبية و القبلية و هنا يأتي دور المثقف و المفكر لكي يعمل على تغيير طريقة التفكير هذه و إيجاد طرق جديدة للتفكير كمثل السعي نحو تحقيق وحدة لا يجب أن ينطلق من مسلمات مسبقة و حقائق ذات جوهر ثابت من مطابقة بشكل ما ،إنما يجب أن تنطلق من التقريب ما بين النظرية و التطبيق مابين العقل و الواقع و هذا يدفعنا إلى أن نسلم أولا بأن هناك خلاف و اختلاف و أن ندرك أننا ننتمي إلى عالم ليس واحدا في واقعه بل إلى عالم عربي متعدد و متنوع و هذا لربما سيؤدي إلى نوع من التعاون و التقارب و ربما لاحقا التكامل ،كمثال آخر تعامل المثقفين مع فكرة الديمقراطية التي قاربوها و اعتبروها بمثابة فكرة جاهزة حقيقة ثابتة و جاهزة مباشرة لكي تطبق عمليا على أرض الواقع بدلا من التعامل معها على انها إمكانية للعمل و دراستها و تطويرها و صياغتها بحسب المعطيات الاجتماعية و الثقافية المحلية الموجودة و لا يمكن ان تسقط الديمقراطية كفكرة جاهزة و معلبة كما هي بحرفيتها على مجتمع لا يمتلك ثقافة الاختلاف و التعددية أو على مجتمع مازالت تحكمه القبائلية و العشائرية و المذهبية بل يجب الأخذ بعين الاعتبار مجمل هذه المعطيات الواقعية و إلا كانت النتائج كارثية و طبعا نفس الأمر ينطبق على مفاهيم و أفكار و مقولات أخرى كمثل التنوير و العلمانية و الحداثة و حتى على الاسلام عندما يرفع شعار أن الإسلام هو الحل فهذا اعتقاد ساذج اعتباطي ينبع من وهم التطابق هذا، بينما دور المثقف الحقيقي هو في سعيه نحو تقريب الأفكار للواقع لا العكس
*الوهم الأخير هو وهم الحداثة : و هو من أشد الاوهام حجبا و إعاقة للمفكر من خلق و ابداع الأفكار و أيضا و حاجزا أمام المفكر يبعده عن استقلاله الفكري و حتى عن أعمال عقله النقذي و يتجلى هذا الوهم و هم الحداثة في تبجيل المثقف و المفكر و تعظيمه بنماذج ثقافية أو فكرية معينة كمثل نموذج الحداثة لدرجة نرى أن هذا المفكر يتعاطى مع هذا النموذج بنوع من التقديس في مكان ما وهذا برأي علي حرب لا يفرق بأي شيء المقلد، بنموذجه الثراثي أو الديني كلاهما يعترضان على أي نقد لنموذجه و يشرعان بالمقابل النقد بشكل مباح للنموذج الآخر، بينما الدروس المستفادة تقول أنه كما أن التقدم الفكري يستدعي نقد النماذج السابقة كذلك فان الاعتراض على نقد الحداثة سيبقي الفكر
، و المفكر على الهامش لأنه إذا أردنا أن ندخل إلى عالم الفكر المعاصر و الحديث يجب أن نركز على تلك العلاقة الجدلية ما بين العقل و التنوير و نتبين الفكر و النقد و هذا هو الفرق بين المفكر العربي و المفكر الغربي فالمثقف الغربي مثلا لا يتوقف عن النقد و بالتالي لا يتوقف عن إنتاج ابتكار مستمر للافكار التنويرية بينما المثقف العربي يكتفي بالدفاع عن نماذج قائمة سواء كانت ثراثية أو حتى تنويرية تحررية من دون أي عمل إبداعي جديد طبعا تنتهي إلى أن هذه الأوهام الخمسة تجعل من المثقف في حالة وعي زائف عماده الوهم بالاكتمال و النضوج و هذا ما يقوده إلى الشعور بالنخبوية و بالتفرد و بالسمو بينما المثقف الحقيقي هو ذلك الواعي بأهمية دوره في إحداث التغيير القائم على النقد و التشريع و التفكيك لكل المظاهر و السلوكيات الغير الصحيحة أو غير سوية في المجتمع .
المفكر الحقيقي هو الذي يعمل على إنتاج الأفكار و إنتاج الرؤى و على خلق الوعي و خلق إبداع لفكر جديد ، يعمل على تغيير الذهنيات و العقول ، بحيث تكون قادرة مثلا على مجابهة تحديات الواقع الداخلي و الخارجي ، و الأهم أن يكون المثقف جريئا في نقد الذات .

«لأن ثورة فكرية لابد أن تبدأ بثورة الفكر على الذات»•




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.