الشعرية المعرفية وتمفصلاتها البينية في خطاب الدكتور عبد الرحيم أخ العرب: نحو سرد معرفيّ ما بعد-إنساني

ذ نزار لعرج

توطئة:

في مدارات النقد العربي الراهن، تتألق أصوات تنشد التجاوز، مبتعدة عن معناه القطيعي، مقتربة من كل ما هو انخراط في تشييد أفق بديل، يجمع بين جذور التراث العربي القديم ومفاهيم النظرية الغربية الحديثة، في محاورة لا تستسلم لمنطق التبعية ولا تنغلق على منطق الأصالة. ومن بين هذه الأصوات، ينهض خطاب الدكتور عبد الرحيم أخ العرب، كمشروع معرفي متكامل يسعى إلى إعادة تفعيل العلاقة بين الشعرية والمعرفة، ثم اللغة والكينونة، فالسرد والنسق.

1\. الشعرية المعرفية عند الدكتور عبد الرحيم أخ العرب: من المحاكاة إلى الوعي التأويلي

الشعرية عند الدكتور عبد الرحيم أخ العرب هي فيض من الحقول المتقاطعة؛ إذ تتأسس على معرفة نقدية متداخلة تتوسل بشتى الحقول المعرفية، تستبطن الهرمنيوطيقا، تنفتح على علوم الطبيعة، وتستدعي فلسفات التأويل. إنَّ ما يطرحه الناقد هنا هو تجاوز لفكرة السرد بوصفه محاكاة أو تمثيلا، وهذه التي ظهرت في النصوص الأصولية الأولية: “كتاب الشعريات لأرسطو وكتاب قراطيلوس لأفلاطون، ونهاية كتابه الجمهورية، الخ، التي تحدد فكرة ثقافية ثابتة في البحث عن وضع شعري، هو المحاكاة. ومع ذلك لم تبلور البلاغات الكلاسيكية والكلاسيكية المحدثة نظرية دقيقة ومتماسكة عن هذا المفهوم”. فالناقد عبد الرحيم تجاوز هذا الوضع الشعري نحو وضع آخر معرفي وله طاقته التأويلية، وسلطته الخطابية، ووظيفته التربوية.

ولهذا، فإن مصطلح “ما بعد‑كلاسيكية” لا يأتي عنده بوصفه مجرّد عرف نقدي جديد، لكن باعتباره تحولا أنطولوجيا في إدراك السرد. وهو ما يصرّح به حين يقول:

“أضحت السرديات في ظل الشعرية المعرفية (ما بعد كلاسيكية) تدرس السرد (الأدبي، الوسائطي، الفيلمي،…) بوصفه فضاء تجريبيا للهوية، وليس خزانة للهويات، ووسيلة للكشف والتحويل، وجسر عبور لنصبح على بينة من غيرية الآخر بتشييد معرفة بالجواهر، وبالحقائق الضرورية …، تلك المعرفة لا تتكئ على معطيات تجريبية وواقعية فقط، بل تعتمد على قدرة الكفاية السردية- الفطرية عند الأطفال والكبار- التي تضيء إحساساتنا حول حقائق غير موجودة انطلاقا من تواصلنا مع الفعل السردي (الشفهي، أو المكتوب، أو الرقمي التفاعلي، أو التوليدي الاصطناعي (الذكاء الاصطناعي السردي ANI).

وقد عملت “السرديات ما بعد كلاسيكية” على إعادة صياغة الأسئلة التي تمت صياغتها من قبل، واهتمت بما أهملته السرديات الكلاسيكية في البراديغم البنيوي وخاصة “النواة الانفعالية المعرفية للذات المتكلمة. والميكانيزمات المعرفية للقراءة، لأن تمثيل العقل الإنساني لا يخضع للنظام اللساني فقط، بل يتكئ على كفايات معرفية cognitive، فالذي (يحكي) ينشئ نمطا ذهنيا للأفعال الإنسانية وللعالم الذي تنتمي إليه تلك الأفعال (عالم القصة storyworld). ومن ثم، يمكن القول: إن ميلاد “السرديات ما بعد كلاسيكية” يعد مفتاح تخصيب العمل والاشتغال على / في السرد، وتوسيع مجالاته البحثية النظرية والتطبيقية، حتى باتت تنعت بـ”سرديات قوة الطرد المركزي”.

وهذا يؤكد أن السرد عند الدكتور هو عبور نحو وعي الذات والعالم، ضمن بنية معرفية تُراكم المعنى من خلال الخروج عن التمثيل.

2\. السرد المعرفي وتمفصلاته البينية: من النص الأدبي إلى الفعل التعليمي-العرفاني

لعل أهم ما يميز خطاب عبد الرحيم أخ العرب هو اشتغاله على تقاطع السرد بمجالات لا تُعد عادة من دائرة الاشتغال السردي، مثل العرفان، واللسانيات، والبيداغوجيا، والعلوم. ففي كل قراءة من قراءاته، يتسلل الناقد إلى داخل النص لتفكيك بنيته واستنطاق خلفياته العرفانية، ورهاناته المعرفية، وممكناته التربوية. إن السرد عنده بناء يشتبك مع المعارف، ويدخل في حوار مع نظريات التعلم، ويستبطن في تضاعيفه مفاهيم العرفان بوصفها نماذج للإدراك لا تنفصل عن البنية الرمزية للنص.

بهذا المعنى، فإن خطاب الدكتور أخ العرب يعيد الاعتبار إلى العلاقة العميقة بين فعل الكتابة وفعل التعلم وفعل التدبر والتفكير. ويمنح السرد سلطة معرفية تكاد توازي سلطة العلم ذاته، وتنقده أحيانا من داخل منطقه التجريبي، لتعيد إنتاجه بوصفه سردا آخر. فالعلم “حسب بوبر popper تخييل للقصص من أجل تفسير الظواهر الطبيعية…، هناك أيضا بعض المجالات العلمية التي تملك تركيبا حكائيا مثل الجيولوجيا، وجانب من البيولوجيا الذي يشتغل عبر إنشاء ظواهر وأحداث في الزمان الذي لم يوجد فيه الإنسان..”.

3\. السرد كجهاز مفهومي: من التخييل الأدبي إلى التأسيس المعرفي، ومن الذات العارفة إلى الذكاء التوليدي

يبدو واضحا أن الدكتور أخ العرب ينظر إلى السرد كمنهج للمعرفة. وهذا ما يمنح مشروعه بعدا ما بعد-نصيا، بحيث يتحول السرد من حكاية إلى أداة منهجية قادرة على إنتاج خطاب معرفي، وقراءة الذات، وتحليل الظواهر. هنا يُستثمر السرد بوصفه مجالا لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والعالم. ومن ثم، فإننا أمام محاولة للقبض على المعنى في انسيابه، وإعادة تشكيله في ضوء رؤى تتجاوز الثنائيات التقليدية (علم/أدب، سرد/معرفة، نص/واقع)، نحو منظومة فكرية تؤمن بالتمازج والتراكب والانفتاح.

فالخطاب السردي المعاصر بدأ يعي أن الذكاء الاصطناعي غدا فضاء معرفيا جديدا يُعيد رسم حدود التخييل، ويُربك الثنائيات القديمة بين المؤلف والآلة، ثم الذات والبرنامج، فالإدراك البشري والمعالجة الاصطناعية. وإذا كان الدكتور عبد الرحيم أخ العرب قد لامس هذا الأفق من خلال إشاراته إلى السرد التوليدي وANI، فإن المأمول اليوم هو الدفع بهذا المنظور نحو تساؤلات أبعد:

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يمتلك كفاءة سردية معرفية؟ وهل في وسعه أن ينتج معرفة شعرية تُعيد ترتيب علاقتنا بالعالم من منطلق التحفيز الإدراكي وكفايات المخيال السردية؟

هنا يصبح السرد حدثا معرفيا مفتوحا على أشكال جديدة من الوعي، تمتد من الدماغ البشري إلى الخوارزمية، وتنقلنا من اللغة العضوية إلى البرمجة التفاعلية. ولعل الشعرية المعرفيةــ بوصفها مفهوما مرناــ تملك من السعة ما يسمح لها باحتضان هذه التحولات، وابتكار جهاز مفاهيمي مواز يُواكب التغير الجذري في مفهوم المُولد والقارئ والنص ذاته. إننا نمر من الشعرية إلى الشعريات التشاركية، ومن الذات العارفة إلى الذوات المُحاكية والمُولِّدة، وهذا ما يُمكّننا من تصور نقدي جديد:

شعرية معرفية ما بعد ـ إنسانية، يلتقي بموجبها السرد بالذكاء الاصطناعي بوصفه امتدادا للمخيلة.

خاتمة: السردية البينية كأفق نقدي بديل في المشروع المعرفي للدكتور عبد الرحيم أخ العرب

في المحصلة، يشكل خطاب الدكتور أخ العرب لبنة متينة في صرح النقد العربي الجديد، تتّسم بخصوصيتها من حيث التركيب المعرفي، وجرأتها في الانفتاح على حقول متعددة، وحكمتها من حيث عدم الانزلاق في غواية المفاهيم المجردة دون تفعيلها قرائيّا. مشروعه يؤسس لما يمكن تسميته بـ “السرديات المعرفية البينية” التي تتجاوز التمثيل إلى إنتاج الوعي، وتستثمر التعدد كغنى معرفي متجهة من سرد الذات نحو سردنة العالم. وهو مشروع يُبشر بإمكانات نقدية جديدة تُعيد للسرد العربي موقعه في تشكيل الوعي المعرفي المعاصر.

قائمة المراجع:

1. فيليب هامون، خطاب مقيد، الأدب والواقع، تأليف رولان بارت وآخرين، ترجمة عبد الجليل الأزدي ومحمد معتصم، منشورات الاختلاف، 2003، ص: 69.

2. عبد الرحيم أخ العرب، السرد والعلم واللسانيات، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، 2025.

3. عبد الرحيم أخ العرب، السرد والعلم واللسانيات، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، 2025، ص: 8.




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.