ذ سعيد حجي
عالم الليل هو انحدار بطيء إلى طبقات الوعي، واختبار وجودي لصراعات الإنسان مع ذاته. في الليل تتبدد الأقنعة، تتعرى النفوس من زيفها الاجتماعي، وينقشع ضوء النهار الذي اعتاد أن يخفي الوجع تحت روتين العمل، أو ابتسامة متعبة….
الليل هو الزمن الذي تخرج فيه الأرواح المنهكة لترمم هشاشتها، أو لتغرق أكثر فيها. أولئك الذين يختارون ارتياد الحانات، أو اقتفاء أثر الضجيج الصناعي للمدن في عتمتها، لا يبحثون عن المتعة بقدر ما يهربون من مرآة النهار. هم في الحقيقة يحملون داخلهم فوضى غير قابلة للإفصاح، ويبحثون في أصوات الموسيقى المرتفعة، أو في خمر رديء، عن عزاء مؤقت لا يدوم أكثر من ليلة…
في الظلمة، حيث تتوارى السلطة الرمزية للضوء، تشتغل النفس البشرية على نحوها الأصيل. تظهر تلك الرغبات المكبوتة، تلك الأفكار التي لا تجرؤ أن تنمو في وضح النهار. قال نيتشه ذات يوم : “حين تنظر طويلا إلى الهاوية، فإن الهاوية أيضا تنظر إليك”. والليل هو تلك الهاوية اللامرئية، التي كلما أطلت عليها، أطلت عليك بألف وجه من وجوهك المنسية…
الفيلسوف الفنلندي “جورج هنريك فون رايت”، في تأملاته حول العقلانية الحديثة، أشار إلى أن الإنسان المعاصر يعيش اغترابا مزدوجا: اغتراب عن ذاته، واغتراب عن محيطه. ولعلّ الليل هو اللحظة الزمنية التي تتجسد فيها هذه الاغترابات بشكل فادح. هو الزمن الذي يتعالى فيه صوت “اللاجدوى”، حين يفتح الإنسان عينيه ليجد أنه لا شيء مما يفعله في حياته يرويه أو يمنحه طمأنينة الوجود…
في الحانات، حيث تتلاقى الأرواح التي أنهكها الضوء، لا أحد يتكلم من الداخل الحقيقي. الجميع يتهرب. الجميع يختبئ خلف الضحك، وخلف ضجيج لا ينقذ. الليل يُسكن الفوضى، لكنه لا يهدئها. إنه لحظة اللاقرار، اللحظة التي يصبح فيها الإنسان أكثر عرضة للانهيار أو للتمرد…
أما النهار الموالي، فيأتي كسلطة حسابية. يفضح ملامح الإرهاق، ويعيدك إلى هندسة الزمن البارد، إلى الاجتماعات والمواعيد والواجبات. لكنه لا ينسى. في النهار، تظهر الخسائر النفسية لليلة فائتة: وجوه باهتة، قرارات ندم، وجيوب فارغة من أي معنى…
عالم الليل يشبه تلك اللحظة التي وصفها أنطونين أرتو، حين قال: “في أعماق الجنون، وحده الليل يهمس للروح بوجود حياة أخرى”. لكنه لم يكن يعني حياة جميلة، بل حياة محطّمة، مملوءة بظلال الأسئلة…
الليل لا يسامح. هو يراك دون أن يتدخل، يراقبك تنهار في بطء، ثم يعيدك كل يوم إلى نقطة الصفر. أولئك الذين يظنون أن الليل مهرب، سرعان ما يكتشفون أنه ليس سوى فضاء مكشوف للمعاناة الداخلية…
الحقيقة أن عالم الليل ليس خطيئة بذاته، بل يصبح كذلك حين لا يكون للمرء عمق داخلي يقوده في عتمته. إنه اختبار للقدرة على أن تكون وحيدا دون أن تنهار، أن تسمع صوتك الداخلي دون أن تجزع. وهو فضاء منفتح، حيث تتداخل الذات مع اللاوعي الجمعي، وتتوالد الأفكار من رحم الوحدة….
لقد قالها ميلان كونديرا ذات مرة: “المأساة ليست في الصراخ، بل في الصمت الذي يليه”…
والليل هو ذلك الصمت العظيم، الذي يعقب كل فوضى، كل نشوة، وكل انكسار.
هو ليس زمنا معتما فحسب، بل مساحة فلسفية لامتحان المعنى، اختبار حقيقي: من أنت حين لا يراك أحد؟ من تكون حين تسقط الأقنعة؟ ماذا تريد حين لا يكون هناك جمهور للتصفيق؟
عالم الليل ليس للأقوياء، ولا للضعفاء. هو مسرح الأرواح المعلقة بين الحياة والموت الرمزي.
هو السؤال المفتوح، بلا إجابة…

