مقتطف من الحركات البيئية ورهان استدامة العدالة الايكولوجية

الدكتور الحبيب استاتي زين الدين*

نجحت المملكة المغربيّة إلى حدّ ما في مُواكَبة الاهتمام العالَمي بقضايا البيئة اقتصاديّاً وسياسيّاً، وأَصبحت من الدول الأكثر نشاطاً وفعاليّة على المستوى البيئي، كما يظهر من خلال ما سنَّت من قوانين وما نظَّمت من لقاءاتٍ وأنشطة وتظاهرات تُوِّجت باحتضان الدورة الثانية والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتّفاقيّة الأمم المُتّحدة الإطاريّة بشأن تغيُّر المناخ من 7 إلى 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، إلّا أنّها ما تزال تُقاوِم للحدّ من التهديد البيئي ووضْعِ عموم المجتمع المغربي في صلب الإشكالات البيئيّة، ولا سيّما أنّ الديناميّة الاقتصاديّة تُمارِس ضغوطاً قويّة على البيئة وعلى المَوارِد الطبيعيّة؛ بحيث يُنتِج المغرب مثلا 1.5 مليون طنٍّ من النفايات الصناعيّة سنويّاً، منها 256.000 طنّ تُعتبر خطرة. وغالباً ما يتمّ التخلُّص من النفايات الصناعيّة في مَطارِح عشوائيّة أو في نقاطٍ سوداء وفي مجاري المياه من دون الخضوع لأيّ مُعالَجة أو مُراقَبة، مع ما يترتّب عن ذلك من عواقب وخيمة على الصحّة العامّة والبيئة. وتقدَّر تكلفة التدهور البيئي في المغرب بحوالى 32.5 مليار درهم، أي ما يُعادِل 3.52 في المائة من النّاتج الداخلي الخام، وهو ما يُمثّل 960 درهماً لكلّ فردٍ سنويّاً. ومن جهة أخرى، يبلغ حجم الأضرار التي تخلِّفها انبعاثات غازات الدفيئة على البيئة الإجماليّة حوالى 1.62 في المائة من النّاتج الداخلي الخام.

وبالرجوع إلى تلك التوتّرات وما تكشف عنه من مَظالِم وما تُبطِّنه من مَخاوِف، المُلاحَظ أنّ المُحرِّك الرئيس لفعل التظلُّم العلني يختلف من فترةٍ زمنيّة إلى أخرى. منذ التسعينيّات من القرن الماضي، بدأ الاحتجاج يتّجه إلى الطابع السلمي غير العنيف، وارتبطَ، أساساً، بمَطالِب ذات طبيعة اجتماعيّة صرفة، لاعتباراتٍ متعدّدة، يُمكن إجمالها في تحوُّل بنية السلطة الحاكمة من نِظامٍ مُغلق إلى نظامٍ مفتوح نسبيّاً، وإدراك التنظيمات النقابيّة والحزبيّة أنّها تقوى على الدعوة إلى الاحتجاج، لكنّها تعجز عن السيطرة على أعمال التخريب والعنف الدموي التي تصاحبه، وذلك تزامُناً مع التغيّرات التي وقعت على المستوى الدولي، وعلى رأسها انهيار الاتّحاد السوفياتي، وارتفاع الطلب على احترام حقوق الإنسان، وما رافقه من دعواتٍ لتحرير الفضاءات العامّة أمام المكوّنات المُختلفة للشعب للتعبير عن انشغالاتها وتطلُّعاتها، وهو ما أَفرز على الصعيد الداخلي، في ارتباطٍ بالبيئة، تأسيس حزبَيْن (حزب اليسار الأخضر المَغربي وحزب البيئة والتنمية) وأزيَد من ألفَيْ جمعيّة تسعى، في حدود مَوارِدها وإمكاناتها وطبيعة تركيبتها وسياقات نشأتها، إلى تكريسِ ثقافة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان وإدراج البُعد البيئي في أغلب التشريعات والسياسات العموميّة الوطنيّة، وهو ما سمحَ بانتقالِ ديناميّة فعل التغيير تدريجيّاً من المُعارَضة السياسيّة إلى الفئات الشعبيّة.

على الرّغم من تبايُن أشكال هذه التوتّرات (احتجاجيّة ذات طبيعة عفويّة وغير مُنتظمة وذات موضوعاتٍ مختلفة تبعاً للظروف والسياقات، أو تظاهرات وحملات حزبيّة وجمعويّة مُهيكَلَة ودائمة تُدافِع عن الحقّ في البيئة وتترافع من أجل الارتقاء بها والتحسيس بأهميّتها)، فإنّ وقائعها في مختلف المناطق الحضريّة وشبه الحضريّة والقرويّة، القريبة من المَركز أو البعيدة عنه بعشرات أو مئات الكيلومترات، تعكس الواقع نفسه. ولربّما أنّ القاسم المُشترَك بينها، هو استبطانُ المُشارِكين في ديناميّاتها خوفاً كبيراً أمام التحوّلات المُتسارِعة غير المُتحكَّم بها، والتي تعمل في عمق المُجتمع، جرّاء السياسات العموميّة في ظلّ تحوّلاتٍ دوليّة تَفرض على المغرب سياقاتها وإكراهاتها. المُستفاد من هذه الإحالة أنّه إلى جانب المطالب الكلاسيكيّة المُرتبطة بتوفير وسائل النقل والمَرافق الصحيّة وإصلاح الطرقات والربط بالكهرباء، بَرزت احتجاجاتٌ ميدانيّة وافتراضيّة حاملة لهاجس انعكاسات التغيّرات المناخيّة والمشكلات البيئيّة التي تستلزم تكثيف الجهود وديمومتها ليس لمُواجهتها وتوسيع ثقافة التحسيس بآثارها فحسب، وإنّما كذلك باستباقها وتعزيز مسؤوليّة الانخراط الجماعي الطوعي تجاهها (لدى المُستهلِك ومُتَّخِذ القرار في القطاع العامّ والخاصّ في الوقت نفسه)؛ وهو الرهان الذي لن يتحقَّق إلّا بتوفير إمكانات الحصول على المعلومة والمَوارِد وربْطِ سوء التدبير، بالنسبة إلى جميع الفاعلين، بالمُحاسَبة.

عالَمٌ يبحث عن نفسه

لعلّ المُستفاد من هذه الإشارات، على اقتضابها، أنّ مفهوم العدالة البيئيّة وما يرتبط به من شبكة مفاهيميّة، لم يعُد مجرّد براديغمٍ عِلميّ يُحفِّز على التفكير السوسيولوجي والسياسي، أو أحد أهمّ الموضوعات التي تُثير النقاش العمومي والعلمي، بل مطلباً للحركات الاحتجاجيّة التي أصبح نضالها شديد الارتباط بالقضايا البيئيّة، وأطروحةً تتبنّاها أيضاً حركاتٌ اجتماعيّة جديدة عدّة، تَعتبر أنّ العدالة الإيكولوجيّة والعدالة الاجتماعيّة هُما وجهان لعملة واحدة ولا يُمكن ادّعاء الفصل بينهما في مُمارَسة الضغط على السلطات العامّة.

نخلص إلى القول إنّ هذا العالَم يبدو حتّى اليوم سائراً في البحث عن نفسه، على الرّغم من مَوارده وقواسمه الماديّة والرمزيّة الكثيرة المُشترَكة. صحيح أنّه راكَم في بعض التجارب مُكتسباتٍ مُهمّة تُجسِّد في مُجملها الرغبة في تجاوُز مُختلف الضغوط والإشكالات التي تُواجِه الأمن البيئي المحلّي والعالَمي، سواء على مستوى السياسات العامّة الداخليّة أم في إطار التعاون الدولي، بيد أنّ الواقع يكشف أنّ هذه الجهود – بصرف النَّظر عن قيمتها- لا تزال مَوضِعَ خَيبةٍ وإحباط.

*أكاديمي مغربي




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.