هشام حسنابي
بعد انكفاء الأيديولوجية القومية والماركسية عقب هزيمة يونيو عام 1967 بوصفها هزيمة منكرة على جميع المستويات العسكرية والأيديولوجية والعلمية والحضارية
ارتدت جميع أطياف النخب العربية إلى التراث في إطار البحث عن إجابة للسؤال لماذا انهزمنا ؟؟
صدرت عشرات الكتب في حقبة سبعينات الماضية منها مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، ومن التراث إلى الثورة للطيب تيزيني والتراث والثورة لغالي شكري والنزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية لحسين مروة والتراث والتجديد لحسن حنفي ونحن والتراث لمحمد عابد الجابري، جميع هذه الكتب تقول أن الحركة القومية واليسارية قد أهملت قضية الإنتماء إلى الإرث الفكر العربي والإسلامي وتجب العودة إليه لإعادة صياغة المشروع التحرري
هذا ما جعل الجابري يستانف البحث عن الإجابة فاستصدر كتابه الأشهر تكوين العقل العربي, ألف سنة 1982وهو الكتاب المؤسس لمجمل جهده الفكري اللاحق
يعتبر كتاب تكوين العقل العربي المحاولة الأولى في تاريخ الفكر العربي التي راحت تمتحن أداة التفكير ذاتها، العقل الذي فكك الجابري نفسه هو حصيلة الثقافة المتكونة، التي تشكل مرجع العربي في التفكير، أي أنها بلغة الجابري الذي تكون في مرحلة قديمة راح يتحكم بالعقل الحاضر، بحيث أصبح هذا العقل الذي هو التفكير السابق، يملي على ، العقل الراهن، كيف عليه أن يفكر
هذا يعني أن العربي حين يفكر فإنه يفكر استنادا إلى المفاهيم و ، التصورات والأحكام والرؤى التي تكون منها عقله في الماضي
الجابري لم ينبر إلى نقد الفكر العربي ، بل راح يكشف عن بنية العقل التي تنتج هذا الفكر ،نقل المعركة الفكرية من النقد الأيديولوجي إلى النقد المعرفي ، قبل أن ينتقل الجابري إلى الكشف عن الاختلاف بين تفكير العرب وتفكير الغرب، عبر المقارنة بين العقل العربي والعقل الغربي يقوم بعرض العقل نظريا انطلاقا من التمييز بين العقل العربي والعقل الغربي
فالعقل الغربي حسب الجابري منذ طاليس اليوناني الأول هو عقل يقيم علاقة مباشرة مع الطبيعة، ليس لديه واسطة بينه وبين الطبيعة لاكتشافها ،يؤسس الاخلاق والقيم على المعرفة، بينما العقل العربي عقل وجداني عاطفي قيمي، وبالتالي نحن أمام بنيتين مختلفتين، ولأن مفهوم البنية يشير إلى الثبات
فإنها تتحول إلى سلطة في إنتاج الوعي حسبما يرى الجابري
لاستكمال البحث في هذه المعادلة يقتضي التساءل ماهو الثابت في هذه البنية العقلية التي هي بنية ثقافية في الوقت عينه ؟؟
يرى الجابري أن العقلية العربية قلنا تغيرت منذ عصر المعلقات مرورا بالنحويين والفقهاء والمؤرخين والفلاسفة، وانتهاء برواد النهضة .العربية ورموز الفكر العربي المعاصر
بنية العقل العربي تشكلت داخل بنية هذة الثقافة التي راحت تشكل ما سماه الجابري اللاشعور المعرفي وهو أساس عميق للتفكير لا يشعر به العقل، ولكنه مصدر أحكام العقل حول الطبيعة والمجتمع والقيم ،وهذا اللاشعور المعرفي كثابت بنيوي جعل العقل العربي يعيش زمانا واحدا رغم تغير الأحوال والأزمان كما يقول الجابري، في ضوء الثبات البنيوي الذي جعل العقل أسيرا لتشكله في الماضي يتساءل الجابري مجددا مما يتشكل العقل العربي ، أو ما العناصر التي كانت بنيته كيف جرت عملية تثبيت هذه البنية على مر السنين؟؟
يجيب الجابري عن هذه التساؤلات بأن عصر التدوين الذي يعود الى منتصف القرن الثاني الهجري، والذي أسس لبنية العقل وحفظها، ففي هذا العصر ظهر جامع الحديث النبوي الشريف وارشف المؤرخون السيرة النبوية، وكتبوا كتب التاريخ
ظهر النحويون والفقهاء وعلماء الكلام ما يعني أنه صار في العصر ارشيف لما انتجه عقلهم ، وصار هو العقل الذي يستخدم نهاية التفكير حتى يومنا هذا ، ومازالت النقاشات والاختلافات تجري داخل هذه البنية نفسها، و التي تتشكل من ثلاثة مباحث كبرى أساسية هي البيان والفقه والعرفان والبرهان
إذن بنية العقل العربي تتشكل حسب الجابري من الاتي اولا البيان البيان الذي يضم علوم النحو والبلاغية والفقهاء والكلام، يرى ان البدوي العربي كان المرجع في علوم النحو والبلاغة ، حيت يتجه عالم اللغة إلى البادية ليسمع البدوي كيف يتكلم بوصفه العربي القح الذي حافظ على أصالته، ولما كان العربي البدوي ابنا للطبيعة ولغته مرتبطة بالحس السمعي والبصري، فقد انتقل هذا الذوق البدوي الى الذوق العربي وطبعه بطابعه، وليس هذا فحسب، بل لقد انعكس هذا على الثقافة العربية والتفكير، الذي راح هو الاخر يفكر وفق صوره الحسية القديمة ، ويقيس جديد الحضارة على ما أنتجته حضارة الاعراب.
اما الفقه الذي ينتمي إلى البيان حسب الجابري فهو الإنجاز الرئيس الحضارة العربية ما جعله مرجعا للتفكير العربي، ولأن الفقه يقوم اصلا على مساءلة النص بوصفه سلطة تحدد طرق التفكير ، أصبح التفكير في الطبيعة والتاريخ تفكيرا في النص فقط، ما يعني أن الفقه صار هو السلطة التي تمنح العقل طريقة التفكير
هكذا خضع العقل إلى سلطة الخطاب أي القرآن والحديث، ومن هنا تصدر جميع أحكامها على العالم، وسواء كان الفقه مستندا الى الموروث أو الاجتهاد تأسيسا على الموروث، فقد ظل مشدودة إلى الأصل
خضع العقل العربي إلى هذه الذهنية في التفكير ، وصار يبحث في الأصول عن الفروع، أو يرد الفروع الى الاصل ، مما يعني الثبات في الماضي والمعنى القديم، وهذا ما يحول دون التجديد .
ويرى الجابري أن علم الكلام بصورتها الأشعرية او المعتزلية تم بالصورة عينها التي تم فيها الفقه، وسيطرت عليه فكرة القياس المعروفة في الفقه وهو قياس حاضرة على حاضرة تشبهها في الماضي، أي بالآلية التي تعامل بها السلف الصالح أيام الرسول وعصر الخلفاء الراشدين وصار القياس ذهنية للحكم على الحاضر
وبعد البيان يأتي العرفان الذي يشكل جزءا من بنية العقل العربي، العرفان حسب الجابري ليس هو التصوف فقط كما يعتقد البعض، وإنما هو العقل المستقيل ذاته الذي تكون من الاتجاهات الباطنية والفلسفة الاشراقية والسحر والتنجيم والتصوف، ملاحظا أن الخيمياء والسحر والتنجيم التي دخلت الثقافة العربية، لعبت دورا مهما في طبع التصوف الاسلامي
وهكذا يرى الجابري ان الجوهامية اي جماعة الجهم بن صفوان والمجسمة الذين يرون الله جسما والمتصوفة واخوان الصفا والفلسفة النورانية الحدسية كما هو الحال عند السهروردي والخلولية، أي اصحاب فكرة حلول الله في بني البشر كما هو الحال عند الحلاج وابن سينا وتصوف الغزالي
كل هذا ينتمي الى العرفان او العقل المستقيل حسب الجابري
يعتقد المتصوفة وبعض رجال الدين بأن المعرفة لا تتم عن طريق العقل وإنما تتم ايضا عن طريق القلب وبخاصة معرفة الله تعالى، والمقصود بالمعرفة القلبية هنا الوصول الى الحق دون برهان منطقي أي عن طريق إشراق روحي كما حصل للغزالي بعد تجربة الشكل التي مر بها فقال ثم قذف الله نورا في القلب وهذا ما يطلق عليه مصطلح العرفان ومن هنا يختلف العرفان عن البرهان، البرهان لا يتم بمنطق عقلي او تجربة علمية فيما العرفان بتجربة روحية وبعد البيان والعرفان يأتي البرهان في تشكيل بنية العقل العربي البرهان الذي يضم المنطق والرياضيات وعلم الطبيعة والفلسفة
فيرى الجابري ان هذه العلوم تمثل اللحظة التي حظر فيها العقل في الحضارة العربية معتبرا أن الفضل في ازدهار هذه العلوم او ما سماها اللحظة البرهانية يعود الى الأندلس والمغرب، حتى ولو دشن الكندي الفيلسوف ولادة البرهان في المشرق
يقول الجابري أن من حزم الاندلسي الظاهري هو الذي شق طريق العقلانية حين اخضع البيان البرهان ثم جاء ازدهارها على يد الشاطبي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون ومع ذلك يرى الجابري ان ذلك الازدهار أدى إلى تطور العلم دون ان يتحول العلم الى وعي علمي ودون أن يخلق الثقافة المطابقة له اي انه بقي في حدوده النظرية ولم يتطور وينتقل الى مستوى التطبيق العملي فينمي ادوات تحدده واستمراريته في التأثير في الحراك المجتمعي ودفع عجلة النهضة والعمران والمدنية
لاقى كتاب تكوين العقل العربي استحسانا وحضورا في اوساط المثقفين العرب يصف محطة مهمة من محطات تكوين العقلية النقدية التي ارادها تحررت من السلفية العربية الإسلامية والسلفية الغربية وتحررا من عقلي البيان والعرفان واشادتها على البرهان أو العلوم
ولكن في الوقت عينه واجه الكتاب نقدا لاذعا من طيب تيزيني الذي كتب كتابا كاملا ضد الجابري بعنوان من الاستشراق الغربي الى الإستغراب المغربي يأخذ على الجابري في تقسيم العرب الى اصحاب بيان وعرفان في المشرق وأصحاب برهان في المغرب كما يأخذ عليه التطبيق المتغير باراء الغربيين ومناهجهم على تاريخ الفكر العربي ويقصد بذلك تطبيق الجابري بنيوية ميشيل فوكو على قراءة الفكر العربي
يبقى الناقد الأكبر للكتاب هو جورج طرابيشي الذي أنفق ربع قرن من عمره ليفكك مشروع الجابري، واحتل تكوين العقل العربي مكانا خاصا في هذا النقد، فيختلف مع الجابري في تقسيم العقل العربي الى بنا ثلاث ، الرابط بينها وتجاهله الجدلية العلاقة بين المباحث العربية الإسلامية ، وحينما كان النقد الموجه للكتاب، فإنه شكل تحولا معرفيا مهما في قراءة الثراث، ولولا ما فيه من حيوية فكرية ومقاربات جديدة لما تولد هذا النقد الذي حاول ان يفكك مقولات الجابري الذي رمى في البركة الراكدة حجرا ثقيلا لا تنتهي دوائرها
نستطيع أن نحدد مفهوم العقل العربي تحديدا أوليا، فنقول إنه ليس شيء اخر غير هذا الفكر بوصفه أداة للانتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها هي الثقافة العربية بالذات التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام، و لتعكس واقعهم أو تعبر عن طموحاتهم المستقبلية، كما تحمل وتعكس وتعبر في الوقت ذاته عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن
_ _ ___