ذ سعيد ححي
في غمرة خمسين سنة من المد والجزر، والسلم والحرب، وبين رياح الخريف وزمهرير الشتاء، كان هناك، ولا يزال، من لا صوت لهم سوى هدير الصمت وهم على الحدود يرابطون. ليس في حسابهم الترقية، ولا يبحثون عن رفعة من أحد، فهم لم يطلبوا شيئا سوى أن يظل الوطن قائما كما عرفوه أول مرة: بخريطة كاملة، وسماء لا تخترقها راية دخيلة….
هؤلاء الذين وقفوا في صمت على تخوم الرمال، كتبوا بلحمهم وعرقهم ونبضاتهم ملحمة لا تصدر في البيانات ولا تتصدر العناوين. لم تكن معاركهم مصنوعة للكاميرات، بل للزمن. انهم من فهموا ما عناه هوبز حين اعتبر أن الدولة لا تقوم إلا بعقد غير معلن بين المواطن وسيفه، حيث يتحول الإنسان إلى حارس لفكرة أكبر منه…
لقد عاش الجنود على الحدود لا كموظفين للدولة، بل ككائنات تحمل الوطن كقيمة ماورائية، كتجسد للانتماء الذي لا يفسر بل يعيش. لم يكونوا أدوات للردع فحسب، بل تجليات للثبات في زمن كانت فيه الحدود فكرة سائبة…
إن ذكرهم اليوم أكثر بلاغة من كل التصريحات. في الوقت الذي تخوض فيه الدول حروب قلم ، يظل الجندي المرابط هناك شاهدا على أن السيادة موقف وجودي بالبندقية والتشبث بالارض كما اللحم والعظم…
في تلك الخنادق، وعلى قمم التلال، وتحت ليل الحدود الطويل، كان الوطن يتنفس من صدورهم. “الجندي الذي لا يرى في الحرب سوى وجه وطنه هو وحده الذي يستحق أن يخلد”، هكذا انبثقت عبارة جان بودريار في لحظة من تأمل الموت …
لا نحتاج أن نرثي من سقطوا هناك، فالأرض التي سقطوا عليها ستتكفل بتذكّرهم . ما نحتاجه هو ألا نسهو عن الأحياء منهم، من لا يزالون هناك كأنهم شجرة صلبة على تخوم الصحراء، تحدق بلا ضجر في الأفق، تحرس حدود المعنى في زمن يتقوض فيه كل المعاني…
في عمق هذا المشهد، ندرك أن فلسفة التضحية ليست مرتبطة بلحظة اشتباك، بل بحالة وجود. الجندي الذي يسهر على حدودك هو من يمنحك الحق في النوم، وهو من يحفظ لك إمكانية أن تكون، دون أن تخشى من أن يتغير شكل الخريطة حين تستيقظ…
انهم ليسوا فقط حرّاس حدود، انهم الشهداء الأحياء الذين يخبروننا بأن كل تراب لا يُحرس، قد يُنسى…

