ذ سعيد حجي
في السياسة كما في الفيزياء، لكل فعل رد فعل. لكن حين تكرر دولة ما فعلا خاسرا لخمسين سنة، دون أن تتعلم من الصدى ولا من الارتداد، فإنها لا تتحدث لغة السياسة، بل تتورط في عبث التاريخ…
تأخذ هذه الدولة على عاتقها مهمة أسطورية: إنفاق زمنها، وثروتها، وسمعتها الدولية، على مشروع انفصالي لا يعترف به التاريخ، ولا يقرّه المنطق، ولا تصدّقه الجغرافيا. كيان وُلد ميتا، تم النفخ فيه بملايين الدولارات، وتم تجميله بخطب طويلة في المحافل الدولية، ثم تم تسويقه على أنه “قضية مقدسة”، رغم أن القداسة لا تُمنح للفراغ…
سياسة كهذه لا تُبنى على البصيرة، بل على المكابرة. وكما يقول سبينوزا: الجهل ليس حجة، لكنه غالبا ما يكون محركا سياسيا. وهنا، يتجلى الجهل حين تُبنى الدولة على نفي الآخر بدل إثبات الذات، على الكراهية بدل الانفتاح، على وهم الزعامة بدل الاندماج في زمن التحولات…
أن تستمر في إنفاق مواردك لدعم كيان لم يفلح يوما في إثبات ذاته، أشبه بأن تصب الماء في الرمال وتنتظر الزهر أن ينبت. ثم حين لا ينبت، تصرخ في وجه الشمس…
ما الذي يدفع نظاما سياسيا إلى هذه المغامرة؟ قد يكون الجواب في ما قاله ميكافيلي، حين ألمح إلى أن الأنظمة الضعيفة تخاف السلام أكثر مما تخاف الحرب، لأن الحرب تمنحها ذريعة للبقاء، بينما السلام يفضح عجزها. لذلك تراها تسعى لتخريب كل مشروع وحدة، وتعارض كل تقارب، ليس حرصا على المبادئ، بل خوفا من الانكشاف…
في خضم هذا كله، يتغير العالم: تنسحب القوى العظمى من مناطق وتدخل أخرى، يعاد رسم التحالفات، تصعد أجيال جديدة في أفريقيا والعالم العربي تطمح للتنمية لا للانقسام، فيما تظل هذه الدولة حبيسة سردية كتبت في سبعينيات القرن الماضي، تُدار بعقلية الحرب الباردة، وتنظر لكل نجاح لجيرانها على أنه تهديد وجودي…
وبينما تتهاوى المشاريع الانفصالية، ويتآكل الدعم الخارجي، وتتبدد شرعية السرديات القديمة، تظل الدولة المهووسة بالمؤامرات تجر أذيال خيبتها من مؤتمر إلى آخر، ومن عاصمة إلى أخرى، تلوّح بورقة محترقة لم تعد تخيف أحدا…
أليس من العبث أن تستمر دولة في صرف أعمار أجيال بأكملها على مشروع فاشل؟ أليس من السخف أن يبقى القرار الاستراتيجي رهينا بعقدة اسمها المغرب؟ أليس من المثير للشفقة أن يظل طموحها هو أن لا ينجح جيرانها، بدل أن تنجح هي؟
في النهاية، وكما فهم دوستويفسكي، فإن الجحيم الحقيقي هو أن تعيش في كذبة وتضطر كل صباح للدفاع عنها. وهذه الدولة، اختارت أن تعيش هذا الجحيم طوعا، لأنها لم تفهم بعد أن التاريخ لا ينتظر المتخلفين، وأن الوحدة لا تُقوّض، بل تُبنى…

