ها نحن نبدأ…

الدكتور الحبيب استاتي زين الدين

ها نحن نبدأ…
يعتبر خطاب الملك محمد السادس، هذا المساء، علامة فارقة في التاريخ السياسي المعاصر؛ إذ لا يكتفي بإعادة تأكيد مغربية الصحراء، بل يؤطر لحظة وعي تاريخي بالتحول من منطق الدفاع إلى منطق البناء السيادي. إن العبارة المحورية “ها نحن نبدأ، بعون الله وتوفيقه، فتحا جديدا” تختصر جوهر هذا المنعطف؛ فهي لا تعبر عن لحظة رمزية فحسب، بل عن مشروع وطني يربط بين الماضي الذي تأسس على الكفاح، والحاضر الذي يقوم على الإنجاز، والمستقبل الذي يبنى على الثقة. فالفعل “نبدأ” هنا لا يشير إلى انطلاق زمن جديد فحسب، بل إلى انتقال في نمط التفكير السياسي ذاته: من التدبير بوصفه رد فعل على التحديات، إلى التغيير بوصفه فعلا سياديا مقصودا يوجه التحولات ويصوغ المستقبل.
بهذه الصياغة الذكية، يعيد الخطاب وصل المسار الوطني الحديث بجذوره التاريخية؛ فالمغرب الذي خاض معركة الاستقلال بقيادة العرش والحركة الوطنية، ثم أبدع ملحمة المسيرة الخضراء سنة 1975، هو نفسه الذي يواصل اليوم معركة التمكين والتنمية في الأقاليم الجنوبية. إن “الفتح الجديد” امتداد تاريخي لذلك الوعي الجماعي الذي وحد الملك والشعب في معارك التحرير، ويعيد اليوم توحيدهما في معركة البناء والتمكين. بهذا المعنى، لا يمكن فهم الخطاب إلا في سياق الاستمرارية التاريخية لمشروع الدولة المغربية الحديثة، التي ولدت من رحم الكفاح، ونضجت عبر التجارب، وتحولت إلى نموذج للاستقرار والتوازن في محيط مضطرب.
على المستوى الدبلوماسي، لا يقدم هذا الخطاب بيانا سياسيا ظرفيا، بل إعلانا لمرحلة جديدة من الحضور المغربي في الساحة الدولية. فحين يؤكد المغرب أن ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تعتبر مبادرة الحكم الذاتي الإطار الواقعي الوحيد للحل، فإنه لا يعلن عن نجاح دبلوماسي فحسب، بل عن تحول في موقع المملكة داخل النظام الدولي. فالمغرب بات يمارس سيادته في ظل شرعية دولية مكتسبة بفضل مصداقيته السياسية واستقراره المؤسسي. وقد استطاعت الدبلوماسية المغربية، عبر توازنها بين الانفتاح والحزم والوضوح، أن تقيم شبكة واسعة من الشراكات الاستراتيجية مع القوى الكبرى، على قاعدة الربح والاحترام المتبادل. ويأتي هذا الإنجاز الدبلوماسي في لحظة أممية مفصلية، إذ حظي القرار الأخير لمجلس الأمن بموافقة أحد عشر عضوا، مقابل امتناع ثلاثة أعضاء، من بينهم عضوان دائمان، ما يعكس إجماعا دوليا متزايدا على أن مقترح الحكم الذاتي المغربي هو الإطار الواقعي والوحيد لتسوية النزاع. هذا التصويت التاريخي لا يعبر فقط عن تحول في مواقف القوى الكبرى، بل يؤشر إلى قناعة راسخة لدى الدول الخمس الدائمة العضوية بأن خيار الانفصال أصبح غير واقعي ومتجاوزا، بغض النظر عن التحالفات الظرفية أو خرائط المصالح الإقليمية. وبذلك يسجل للمغرب إنجاز سياسي غير مسبوق منذ المسيرة الخضراء، يكرس نجاح رؤيته الدبلوماسية في ظل استقطاب دولي معقد، ويجعل من قضية الصحراء نموذجا في تحويل الشرعية التاريخية إلى شرعية أممية معاصرة.
وفي البعد الداخلي، لا يختزل الخطاب في إدارة ملف الصحراء، بل يتخذ منها مدخلا لإعادة تعريف المشروع الوطني برمته. فالإشارة إلى تحيين مبادرة الحكم الذاتي ليست تقنية إجرائية، بل تأكيد على أن المغرب لم يعد ينتظر الحلول من الخارج، بل يصنعها من الداخل عبر هندسة نموذج تنموي يزاوج بين المركزية الوحدوية والمقاربة الترابية التشاركية. إن التحول من التدبير إلى التغيير يتجلى هنا في إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة المواطنة الفاعلة والعدالة المجالية، بحيث تصبح الأقاليم الجنوبية نموذجا للاندماج الوطني لا هامشا جغرافيا. وهكذا، يكرس الخطاب فكرة أن السيادة ليست مفهوما قانونيا فحسب، بل ممارسة تنموية متجذرة في الأرض والإنسان.
ويتضح هذا البعد أكثر في استحضار العلاقة العضوية بين الملك والشعب، التي تشكل محور المشروعية التاريخية والسياسية للمملكة. فالخطاب يؤكد أن كل فتح وطني هو ثمرة هذا التلاحم المستمر منذ فجر الاستقلال، حيث تلتقي الإرادة الملكية بالعزم الشعبي في مشروع واحد: الدفاع عن الوطن وبناؤه. ومن هنا تبرز أهمية الإشادة بالقوات المسلحة الملكية والأجهزة الأمنية، لا بوصفها أدوات للدفاع فقط، بل باعتبارها تجسيدا عمليا لهذا التحالف التاريخي بين الدولة والمجتمع. فهذه المؤسسات ليست مجرد حارسة للحدود، بل فاعلا وطنيا في حماية التنمية وتعزيز الاستقرار وضمان استمرارية الدولة.
أما في البعد الإقليمي والدولي، فإن دعوة الملك إلى حوار مباشر وصادق مع الجزائر ليست مبادرة دبلوماسية فحسب، بل جزء من رؤية استراتيجية تستشرف مستقبلا مغاربيا قائما على التعاون لا التنافر. فالمغرب، الذي رسخ مكانته قوة استقرار في شمال إفريقيا، يدرك أن مستقبله مرتبط بمستقبل جواره، وأن تحقيق الأمن الإقليمي لا ينفصل عن ترسيخ ثقافة السلام وبناء الثقة المتبادلة. ومن ثم، يقدم الخطاب نموذجا متقدما في الذكاء السياسي الواقعي، يجمع بين الدفاع الصارم عن المصالح الوطنية والانفتاح المرن على منطق الشراكة والمصالحة، وهو ما يعكس التزام المغرب الدائم بنهج السلم كخيار استراتيجي لا ظرفي. فالمملكة، التي بنت حضورها الدولي على المصداقية والتوازن، كانت على الدوام داعية للسلام ومحفزة عليه، إيمانا منها بأن الاستقرار المشترك أساس التنمية والتكامل، وأن المرحلة الراهنة تمثل فرصة لترسيخ هذا التوجه في عمقه السياسي والإنساني، وجعل السلام امتدادا طبيعيا لمشروعها الوطني في بعديه التاريخي والمستقبلي.




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.