ولا تزال السماء لم تمطر….

ذ سعيد حجي

بالقرب من مفترق طرق صاخب، وفي مساء كانت فيه السماء في مخاض عسير ، كانت امرأة بدينة، بملامح متآكلة من الانتظار، تسير بخطى ثقيلة بين موجات اللامبالاة…
السماء لم تكن تمطر، لكنها أيضا لم تكن جافة. كانت على الحافة، تماما كهيئتها، كأنها تستعد للانهيار أو التراجع.
المرأة لم تكن تلتفت للغيوم، ولا للريح التي تداعب طرف وشاحها. كانت منهمكة في معركة أكثر استعصاء: إقناع المدينة بأن توقف لها سيارة أجرة…
كان كل شيء فيها يوحي بثقل: الجسد، النظرة، الملف البالي بين يديها، وحتى أنفاسها التي بدت كأنها تصدر من صدر متآكل من الداخل…
الملف لم يكن مجرد أوراق، بل شهادة موثقة لسنوات من التآكل الصامت، لرحلات طويلة بين مستشفيات لا تحفظ أسماء المرضى، بل فقط أرقامهم. أوراق مطوية بشدة، بلون الباهت المائل الى الرمادي، تشبه حياتها…
كانت تمر السيارات بسرعة، كل واحدة تحمل عالما آخر، ولا واحدة توقفت.
المدينة لم تكن عمياء، بل كانت ترى وتتجاهل. كأن الرؤية بذاتها صارت فعل عنف…
استمرت في التقدم، عرقها يسيل من عنقها، كأن الجسد لم يعد قادرا على حبس الألم داخله.
ثم…
سقطت…
ليس سقوطا استعراضيا، ولا نتيجة مشهد درامي، بل سقوط انسحب فيه الجسد من الواقع، وأعلن بصمت: كفى.
الجسد، حين يخذل صاحبه، لا يخطئ.
هو فقط يقرر أن يتوقف حين لا يعود هناك جدوى من الاستمرار…
تجمّع الأطفال، عيونهم كانت تتأرجح بين الفضول والخوف، بين الطفولة والعجز.
أحدهم رشّ ماء بلا طقوس، فقط بفعل غريزي، كما لو أن الرغبة في إنقاذ أحدهم، أيا كان، لا تزال حيّة في مكان ما من هذا العالم.
لكنها لم تستجب…
هي لم تمت، لكنها عبرت برهة الى منطقة رمادية، حيث لا وجع ولا وعي، لا زمن ولا استعجال.
هناك، حيث يتكلم الجسد بلغته الخاصة، وتنهار الواجهة الاجتماعية للإنسان، لتتركه وحيدا مع هشاشته…
الملف بقي في يدها، لم يسقط. كأن الجسد، حتى في اللاوعي، يعرف أن تفريطه في هذا الملف يعني التبخر، الذوبان، الاختفاء…
ما جرى لم يكن فقط إغماء، بل احتجاج صامت على مجتمع لا يرى التعب، على مدينة لا تعترف بمن يسير خلفها بخطى بطيئة.
فرويد كان يرى أن الجسد يحتفظ بالذاكرة حين تعجز النفس عن الكلام، وها هو جسدها نطق، صرخ، أعلن التوقف.
حين استفاقت، لم تحتج لكلمات.
استنشقت الهواء، لامست جبينها، تمتمت في سرها شيئا لا يسمعه غيرها.
ثم أمسكت الملف، ونهضت.
كأن السقوط لم يكن فشلا، بل استراحة.
كأن الإغماء كان صيغة بديلة للبكاء.
ثم مشت.
لا تزال تنتظر طاكسي.
ولا تزال السماء لم تمطر.




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.