الحياة العارية….

ذ سعيد حجي

كانت الساعة تجرّ نفسها بتثاقل نحو التاسعة والنصف صباحا، لا لأن الزمن متوقف هنا، بل لأن المكان نفسه لم يعد مؤهلا لاستقبال هذا الزمن. الأزقة التي استيقظت على ضجيج خافت وصمت يحتضر ، لا تحمل في قلبها سوى صدى الفقد المتكرر، الفقد الذي لا يُعلن عن نفسه بموت واحد، بل بانهيار بطيء للأشياء، للوجوه، للمعنى…
هناك، على رصيف منسي، رجل يرتدي بذلة العمل المهترئة، ليس كرمز للطبقة العاملة كما يحلو للبعض أن يسميه، بل كأثر متبق من آلة اجتماعية أكلت أبناءها. يجرّ فرع شجرة، لكنه في الحقيقة يجر خلفه ذاكرة مهشّمة، يجر طفولته، وقلبا لم يعد يشتعل إلا بالألم. يداه تنزفان، لا من الجهد، بل من تاريخ طويل من الاستنزاف…
على الجهة المقابلة، كانت قطة تنكمش قرب جثة صغيرها المهشم تحت عجلات سيارة عابرة منذ ليلة أمس . تموء في صمت لا يسمعه أحد، كأنها تنادي على معنى، لا على ابن. تشبه تماما الأم التي تنتظر جثمان ابنها في ثلاجة مستشفى عمومي. لا تملك لغة الشكوى، لكنها تملك دفقا من الحنين الحيوي الذي يجعل الموت نفسه مسألة مؤجلة…
المشهد ليس مجرد تراجيديا يومية، بل هو تشريح رمزي لمجتمع فقد شرطه الإنساني الأول: الاعتراف بالآخر ككائن يتألم. كما كتب كارين باراد، “الواقع ليس شيئا نرصده، بل نخلقه ونحن نتفاعل معه”. والمشهد هنا لم يكن قدرا عابرا، بل خلقناه، بصمتنا، بتواطئنا، ببلادة شعورنا…
اقترب ذلك العامل من الجثة الصغيرة، حملها بكيس بلاستيكي. القطة كانت تراقب بعينيها الغارقتين في رجاء لا يُفسر. لم يكن الرجاء في إنقاذ ابنها، بل في أن يكون هذا الرجل مختلفا عن بقية العابرين، أن يملك من الهشاشة ما يسمح له بدفن الجسد بلطف…
في هذه اللحظة، تتجلى البنية الكونية للفقد: ليس أن نفقد، بل أن نشهد الفقد دون أن نملك قوة التغيير. ذلك ما يسميه جورجيو اغامبين بـ”الحياة العارية”، حين نصبح موجودين خارج السياسة، خارج القيمة، خارج الحماية.
العامل ينظر إلى القطة. القطة تنظر إلى الغياب. لا أحد منهما يتكلم، ومع ذلك يدور بينهما حوار عميق، لا تلتقطه إلا الأرواح المتهالكة. ربما كان كلّ منهما مرآة للآخر، كلّ يرى شظاياه متناثرة في الآخر…
دوستويفسكي كتب مرة: “لا شيء أصعب من حمل الإنسان لحزنه بصمت”. وربما لا شيء أصدق. ففي الصمت الذي غلّف هذا الصباح، لم تكن المدينة تنام، بل كانت تعاني بصمت، مثل القطة، مثل العامل، مثلنا جميعا…
نحن لا نعيش في مدن، بل في جراح مفتوحة، نخفيها تحت أقنعة الصبر، لكننا نراها تنزف على الأرصفة، في نظرات الغرباء، وفي موت صغير، لا يُبكَى عليه، لكنه يحس، كطعنة في الروح..
هكذا كانت القسوة لازمة، لا كتشويه للواقع، بل ككاشف لجوهره: أن الرحمة، في عالم مفرغ من الإحساس، تصبح أعظم أشكال المقاومة…




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.