ذ سعيد حجي
بالأمس القريب كان الشارع يغلي من كثافة الاحتجاج، من تراكم الغضب ، من خيبات تتوالد في عتبات المدرسة والمستشفى ورفوف المعيشة اليومية. كانت الأصوات تخرج من جوف الشارع، لا تطالب بالكمال، بل بحقوق أولية: حق في العلاج، في التعليم، في الكرامة… وفي أن لا يكون الوطن قطعة ورقية تُسحب من الجيب ولا تعاش في الواقع…
ثم، بشكل متواز ومتناقض، يتحول اليوم نفس الشارع إلى ساحة احتفال. ضجيج آخر، مختلف في نبرته، لكن صادر من الحلق ذاته. مشاعر الغضب بالأمس تحوّلت إلى انفعالات الفرح الجماعي، كل ذلك بسبب انتصار كروي. قد يبدو هذا متناقضا، لكنه في العمق يعكس طبقة عميقة من النفس الجماعية، تلك التي أشار إليها “فيلهلم رايش” حين وصف الجماهير بأنها تحمل داخلها طاقات مزدوجة، قابلة للانفجار في أي اتجاه بحسب الشرارة…
الرياضة هنا ليست أفيونا كما يُروّج في التحليلات السطحية، بل هي أرض التقاء، لغة وسطى حين تتعذر اللغات، هي الذاكرة الجمالية لوطن نكاد ننسى أنه قادر على الفوز. حين تنتصر كرة القدم، ينجح اللاشعور الجمعي في صنع سردية نصر بديل، نصر لا يعوّض النقص المؤسساتي، لكنه يمنحنا مهلة رمزية للانتماء…
ثنائية الغضب والفرح ليست انفصاما، بل هي تعبير عن ما سماه إدغار موران بـ”التعقيد البشري”، حيث المشاعر لا تسير في خط مستقيم، بل في انحناءات التناقض. نفرح لأننا ما زلنا قادرين على الفرح، ونغضب لأن لا شيء في بنية السياسة والمؤسسات يعكس هذا الفرح بشكل مستدام. الفرح هنا ليس تطويعا، بل مقاومة رمزية للهزيمة الوجودية…
المشهد الذي حدث بعد الفوز ليس عبثا. هو دليل على أن الجماهير لا تزال تملك حسّا عميقا بالانتماء، لكن هذا الانتماء معلق، ينتظر لحظة انبلاج في غير الرياضة: في الاقتصاد، في السياسة، في العدالة الاجتماعية. تخيل فقط لو تحقق نصر مماثل في مؤشرات التنمية أو التعليم، كيف كانت ستُشعل المدن وهجا من نوع آخر، أكثر صمتا، لكنه أعمق أثرا…
لقد أظهرت الجماهير، دون أن تعي، ما يسميه بيير بورديو بـ”الحس العملي”، أي ذاك الوعي غير المنطوق بالواقع، وطرق التفاعل معه، خارج النظريات. الجماهير تعرف أنها تُخدع سياسيا ، لكنها تعرف أيضا أن لحظة الانتصار تملكها بالكامل، فتحتفل بها وكأنها مِلكها الخاص، لأن كل شيء آخر مسروق منها…
ما جرى بالأمس ليس انفصالا عن المطالب، بل هدنة شعورية. الفرح الجماعي لا يلغي الألم، لكنه يعبر عنه بلغة مختلفة. هو صرخة أخرى، بنفس الحنجرة التي كانت تصرخ من أجل الدواء والمقاعد في المدارس…
في العمق، لا شيء تغيّر. الشارع نفسه، القلوب نفسها، والخيبة نفسها، لكن مع لحظة استثنائية تُعيد تذكيرنا بأن هذا الشعب رغم كل شيء، لا يزال يملك القدرة على الأمل، وإن كان ذلك في شكل هدفين في شباك منتخب عالمي…
وهذا بحد ذاته، كما كتب إرنست بلوخ، هو “مبدأ الرجاء” الذي لا يمكن استئصاله من الإنسان، لأنه جوهر استمراره…

