الاغتراب الوجودي..الاغتراب عن الذات أولا…

ذ سعيد حجي

حين كتب تشيخوڤ عبارته العميقة “يكبر الانسان ثلاثة اضعاف عمره عندما يحاول التأقلم مع حياة ليست مناسبة له”، لم يكن يستعرض هنا رأيا عابرا من لمم اللغة ، بل كان يوجّه ضربة ناعمة إلى القلب المعاصر، ذلك القلب الذي يعيش في بيئة لا تشبهه، يبتسم حين يجب أن يصرخ، ويصمت حين يجب أن يحتج…
في علم النفس الوجودي، يشار إلى هذه الحالة بالاغتراب الوجودي، وهي ليست فقط غربة عن المجتمع أو الآخر، بل غربة عن الذات. تعيش يومك كما لو أنك تؤدي دورا كتبته يد أخرى، لكنك مضطر لإتقانه، لأنّ الخروج عن النص صار يُهدّد أمنك النفسي والاجتماعي. هنا تتقاطع الفلسفة مع علم الاجتماع حين يصير الفرد رهينة لمنظومة تُعرّفه لا كما هو، بل كما تريده أن يكون…
الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبين تحدّث عن “الحياة العارية” ـ تلك التي تُسلب من معناها السياسي والذاتي، وتُختزل إلى مجرد أداء بيولوجي. وهذا ما نعيشه: حياة تستمرّ لأنّنا نتنفس، لا لأنّنا نعيش فعلا. وداخل هذه العتَمة، يحاول الإنسان المتألم أن يتأقلم، يبتكر ضحكة هجينة، يُلصقها على وجهه كل صباح مثل قناع، يمارس ما يسميه فرويد بالكبت البنّاء، أي أن تواري حقيقتك تحت ركام الالتزامات حتى لا تنهار…
السؤال المؤلم: هل هذه هي الحياة التي نستحق؟ أم أن هذه فقط هي النسخة التي أمكننا النجاة بها؟
أن تحيا حياة لا تناسبك، يشبه ارتداء حذاء أصغر من مقاسك في طريق جبلي طويل. ومع ذلك تستمر، لأنّ التوقف أصعب من الألم. لذلك تصبح “الوظيفة” ليست فقط مهنة بل عبء وجودي، والعلاقات ليست فقط تشاركا بل تبادل قلق. حتى النوم، ذلك الملجأ الأخير، يُصبح محاولة فاشلة للهروب من ذاتك التي تطاردك حتى في الحلم…
وفي خضمّ هذا، تنسى من أنت. تفقد خيطك الداخلي. يتآكل وعيك بذاتك كما يتآكل الورق تحت المطر. كتب إميل سيوران يوما بلغة لا تخلو من مرارة: “أسوأ ما في الحياة أن تجد نفسك مضطرا للدفاع عن شيء لا تؤمن به، فقط لأنّه الواقع الذي وُضعت فيه”. هذا ما يحدث حين تألف الحياة الخطأ…
لكن، وسط هذا الخراب، هل يمكن ترميم الذات؟
نعم، إن عدت إلى نقطة الصفر، حيث لا مسميات، لا قوالب، فقط الوجود الخام. حين تتوقف عن السعي لتناسب الحياة، وتبدأ في محاولة تشكيل حياة تناسبك أنت. حين تفهم أن ما يُطلب منك ليس دائما ما يلزمك، وأن المعيار ليس الخارج، بل الداخل…
الفيلسوف الألماني ماكس شيلر آمن بأن الانفعال العميق تجاه الوجود هو ما يعيد ترتيب الذات، لا المعايير الخارجية. وهذا ما نحتاجه: انفعال روحي يجعلنا نصرخ من الداخل: “هذه ليست حياتي”. هناك يبدأ التحول…
فقط من تجرأ على خلع الزيّ المفروض، على كسر المرآة التي يرينا فيها الآخر صورته عنّا، من تجرأ أن يعيش وحيدا إن لزم الأمر، هو القادر أن يبني ذاتا تشبهه. لا ذاتا مصنوعة من القبول الاجتماعي والتكيّف النفسي، بل من الصدق مع الذات، والاعتراف أن ما نعيشه لا يعبر عنا…
ليست الحياة في أن نعيش ما لدينا، بل أن نخلق ما يشبهنا، ولو بعد ضياع طويل. وكل حياة غير مناسبة، ما هي إلا نقطة انطلاق نحو اكتشاف ذات دفنتها التوقعات…
فهل تملك شجاعة الحفر؟




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.