سعيد حجي
جالس على مصطبة قديمة، كأنها اقتُطعت من زمن لم يعد بيننا، تحت سقيفة أكلها الصدأ، عند آخر الدرب حيث تتوارى الأشياء في ظلال المساء، أراقب المطر ينزل بهدوء يشبه أنين الذاكرة. ليس المطر ما يستوقفني، بل ما يستحضره في داخلي، من مشاهد لم أعد أعيشها إلا في الخيال: صوت أمي تنادي، رائحة الخبز الساخن، سعال أبي وهو يُصلح شيئا لا يهم إن اشتغل أو لا، عصفورة تختبئ تحت شجرة التين، وأرض طينية تنبعث منها رائحة الأمان…
هنا، لا أستعيد الماضي لأبكيه، بل لأفهمه. الزمن لا يسير إلى الأمام كما تُوهمنا الفيزياء، بل يعود بنا مثل رقصة دائرية نحو نقط سبق أن عبرناها، نحو أماكن كان فيها وجودنا أكثر صفاء، وأكثر صدقا. أليس هذا ما لَمّح إليه هيدغر حين ربط الكينونة بالحنين؟ حين قال إن الإنسان لا يوجد إلا لأنه يتذكر وجوده؟
الأشياء البسيطة، التي لا يعيرها الزمن اهتماما، هي وحدها من تصنع تاريخنا الخاص. وها أنا أستعرضها في داخلي، لا كنوستالجيا رخيصة، بل كنوع من التأمل في العلاقة المعقدة بين الذكرى والهوية. فكل ما نعتقد أننا تجاوزناه، يعيش فينا بصمت، وكل ما نظنه ماض لا يعود، يتربص بنا في زوايا الحاضر…
نحن لا نكبر لأن الأعوام تتوالى، بل لأن تفاصيل صغيرة جدا تتغير فينا دون أن نشعر: الطريقة التي نضع بها فنجان القهوة، نظرة العين حين تصادف غريبا، صوت الداخل حين نمر أمام مكان أحببناه يوما… في هذه التفاصيل يتسرب الزمن، وفيها نُقهر دون مقاومة…
وهل ثمة مقاومة حقيقية للزمن؟ ربما لا. ربما الإنسان، كما قال نيتشه، كائن محكوم بدورة أبدية. يظن أنه يسير نحو الأمام، لكنه في الحقيقة يدور حول ذاته، يكرر ألمه وفرحه بحُلل جديدة، يمشي نحو حتفه بخطى مغطاة بالروتين…
كل شيء هنا يدفعك للتأمل، لا لليأس. لأن اليأس نفسه لا يولد من الفراغ، بل من قمع أسئلتنا العميقة: لماذا نعيش؟ ما الذي يجعل الحاضر يستحق أن يُعاش؟ ما قيمة الإنجاز إن لم نكن نعيشه بكامل حضورنا؟
الحياة ليست حدثا عظيما ننتظره، بل تراكم لحظات بسيطة جدا. المطر الذي يلامس وجهي الآن هو ذاته الذي لامس وجهي وأنا طفل. لكنه الآن يحمل معنى مختلفا، لأنه يمر فوق جلد يعرف الفقد، وذاكرة خبرت الانكسار…
هكذا، في خضم هذا التأمل العميق، أفهم أن الماضي ليس شيئا ندفنه، بل شيئا نعود إليه لنستعيد ما فقدناه في الطريق: صدق المشاعر، نبل القصد، ونقاء الرؤية. والحاضر؟ مجرد لحظة بين زمنين، علينا أن نعيها حتى لا تذوب من بين أصابعنا كما ذابت سنوات كثيرة قبلها…
أفكر، وأنا أراقب الغيم يتكاثف، أن الإنسان لا يُقاس بما يملكه، بل بقدرته على الصمت، على الإنصات، على فهم معنى الأشياء حين لا يقولها أحد…
وهكذا، تظل المصطبة، والسقيفة، والمطر، والعصفورة… كلها رموز لوجود داخلي أعقد مما نظنه. وجود يحتاج إلى تأمل لا ضجيج، إلى عمق لا سرعة، إلى وعي لا استهلاك…
لذلك، لا أبرح مكاني. لأن الجلوس في هذا الهامش، بعيدا عن مركز العالم، هو أقصى ما يمكن أن نبلغه من حكمة…

