بقلم سعيد حجي
ولازلت جالسا هنا، في هذا الركن المنزوي من صباح لم يعد يشبه الصباحات ، ارتشف قهوتي السوداء التي تسكنها مرارة متأصلة، ليست في طعمها فقط، بل في رمزها العميق، رمز التآكل البطيء للذائقة في زمن يفرغ المعاني من كل نكهة. تتعالى من الزاوية نغمات “الوترة”، تحملني بين ضفتي الحنين والتيه، وتنساب في الهواء تلك النغمة الأمازيغية الشجية لمحمد رويشة : “متّى ازمان اسساكان، اذا الزمان اغودان”، ليست مجرد أغنية، بل مرآة زمن مهشم، تتكسر على سطحها أسئلة ميتافيزيقية من نوع خاص…
أشعر وكأن هذه السمفونية تعاتبني، لا بصراخ، بل بخفة نملة تزحف نحو طبقات اللاوعي، تهمس لي بأسئلة قديمة جديدة: ما الحياة؟ ما الزمن؟ ما الوجود؟ أسئلة ليست لإيجاد إجابة، بل لإعادة زعزعة استقراري الزائف. طويت سجلي، قلت: “هي كلها الحياة”، كأنني أرد على العبث بعبث أكبر. لحظتها فقط، تكسرت النوتة، خمد الصمت، ولم يبق سوى شلال العبرات ينحدر على خدي بلا معنى، ولا عزاء…
في تلك اللحظة، تذكرت أن الوجود في عمقه ليس إلا دراما أنطولوجية، نعيشها دون أن نملك سيناريوهاتها. في زحمة العالم، يصبح الإنسان مشروعا مؤجلا، يبحث عن ذاته في أمكنة خاطئة، في صور رقمية، في نجاحات سطحية، في حب لا يحمله إلا وهم الحب. قال نيتشه في قلب كتابه دون أن يقول: “إننا نحيا كمن يعبر الصحراء في وهم البحر”. وهكذا نحن، نغرق في سراب الزمن، نركض خلف لاشيء، نحاول ترميم هشاشتنا الداخلية ببريق لا يدوم…
كل شيء اليوم يتحول إلى صورة، حتى الألم صار قابلا للفلترة. يعيش الإنسان عصرا فوكويّ النزعة، حيث السلطة لم تعد قهرا مباشرا، بل رغبة داخلية في الخضوع، حيث الفرد يراقب ذاته بنفسه، يتقن قمعه الذاتي، يروض حزنه، يعلّبه في ابتسامة جاهزة…
عدت لأتساءل، هل نحن حقا نعيش، ام نؤدي طقوسا مكرورة للموت البطيء؟ هل وعينا بالزمن لا زال حيا، ام اننا فقط نُجرّ ككائنات بلا ذاكرة؟ هوس الحاضر، طمس الماضي، وتهميش المستقبل، كلها ملامح إنسان ما بعد حداثي فقد بوصلة الكينونة. هيدغر لم يكن يهذي حين تكلم عن ذاك الكائن الذي لا يكون إلا حين يطرح على نفسه سؤال “ما معنى ان أكون؟”…
في خضم هذا العبث، وحدها العودة الى الفن، إلى بعض الموسيقى، الى الكتب، الى التفاصيل الصغيرة ، يمكنها أن تمنحنا تماسّا ولو هشّا مع الوجود. حين ترتشف قهوتك في صمت، وتتأمل انسكاب الظل على الجدار، فأنت تمارس شكلا من المقاومة. في عالم يقدّس السرعة، يصبح البطء ثورة، يصبح الإصغاء نوعا من الفعل السياسي، يصبح الحزن مادة خام لإعادة خلق الذات…
نحن لسنا ضحايا العالم فقط، نحن شركاؤه في الخراب أيضا، حين نسكت، حين نقبل، حين لا نسائل. تفكيك السرديات الكبرى، كما نادى به دريدا، لم يكن ترفا فكريا، بل محاولة لاستعادة المعنى في واقع تعددت فيه المعاني حتى اختنقت.
والآن، وأنا على هذه الطاولة، في هذه العتمة الرخوة، أسمع آخر نغمة تتلاشى، أشعر أن الزمن انكمش، أن الماضي والمستقبل التقيا في لحظة ذائبة في كأس قهوتي، وأن علي أن أختار: إما أن أغرق في التكرار، أو أن أولد من جديد، من رماد صمتي…
فاخترت أن أصمت، لأسمع نفسي، لأفكر ببطء، لأبني من فتات الوجدان فلسفة صغيرة، لا تليق بالمجلدات، لكنها تليق بي…

