بقلم سعيد حجي
في زاوية معتمة من مقهى يشبه معدة مدينة تعاني من عسر هضم اجتماعي، جلس شاب يحتضن سُميّة التبغ كما لو كانت آخر دفقة من الحب في رئتيه. لم تكن السيجارة مجرد عود نار، بل كانت تميمة يائس، يحرق بها البقية الباقية من يقينه، بعد أن هجرتْه عشيقته منذ سنتين، لا لشيء سوى أنه لا يملك ما يكفي من الأصفار البنكية ليملأ فم الواقع الصفيق. لكنه نسي أن المأساة، كما تهمس به المسافة بين الرغبة والقدرة، لا تبدأ حين يغادرنا الآخر، بل حين نغادر ذواتنا ولا نعود…
قريبا منه، كانت امرأة تكتب. أشرفت على الأربعين، ولا تزال تعتقد أن الكتابة نجاة، رغم أنها لم تلتقط يوما صوت اللغة الحقيقي. كانت قصائدها مزيجا من الحنين والتصنع، أشبه بكلمات تنام على جرح وهمي، لكنها ختمتها بتوقيع “المعذبة الحزينة”، كأنها تحاول إقناع ورقة خاوية بأنها مرّت فعلا من هاوية. وهذا جزء من الإيهام الوجودي الذي يخلقه الإنسان حين يعتقد أن التوقيع على الألم يمنحه معنى…
وفي الجوار، مراهقة تشبه كائنا قيد التشكل، تحفر بأظافرها قلبا على حائط المدرسة، وتغرس فيه سهما بقطرات دم، ترمز به في ذهنها البسيط إلى أنها ضحية حب. لكنها لم تفهم بعد أن الضحية الحقيقية هي الوعي حين يسرق منه المجتمع أدوات النقد، وتُستبدل جدلية الهوية بجملة عاطفية جاهزة…..
المرأة في آخر الزقاق، التي أرّقتها وشاية من جارتها حول زوجها ، لم تكن تبكي خيانة مؤكدة، بل صورة هشّة عن الأمان العاطفي الذي بنت عليه مفهومها للأسرة. في مجتمع يغيب فيه الحوار، وتُؤسس العلاقة على النوايا أكثر من العقل، تصير الابتسامة خطرا داهما، والمرأة سجينة هواجس لا أصل لها إلا في التقاليد المتكلسة…
والطفل الذي يرسم رأس حيوان على طاولته، لم يكن يلعب، بل كان يعبر بلغة رمزية عن التوحش الذي يراه حوله. لم تكن له وسيلة تحليلية لفهم المجتمع، فاختار الرسم. فالمخيال الجمعي حين يُقمع في الطفولة، يعيد إنتاج العنف في أشكال بدائية. ربما كان يمارس نوعا من “التفريغ السيكولوجي”، لكنه في العمق، ضحية نظام تعليمي لا يفرق بين المعرفة والتلقين…
وفي النهاية، كان هناك شاب مفتول العضلات، منح جسده للعطالة، وعقله للتبرير. منحه المجتمع القشرة وحرمه من اللب. صار يعتقد أن فحولته تبرر خنوعه، وأنه ضحية مجتمع يرفض الاعتراف به. لكنه لم يدرك أن القوة لا تُقاس بعضلات فارغة، بل بقدرة الفرد على التحرر من “الوعي الزائف” الذي يجعل من الانتماء مجرد شعار…
كل هذه الشظايا البشرية تتناثر حولنا، كأن المدينة قد صارت مكبا لوعي لم يكتمل. عالم فقد بوصلة المعنى، فصار يستهلك الألم دون أن يسائله. وكما كتب أحد الفلاسفة، إن الإنسان لا يُهزم حين يُسحق من الخارج، بل حين يُستبدل جوهره بمفهوم سطحي عن وجوده…
العطب ليس في الحب، ولا في الزواج، ولا في المدرسة، ولا حتى في السيجارة التي تُشعل كبد المدينة. العطب فينا، في انصياعنا التام لنظام يربينا على ردود الفعل، لا على التفكر. إننا نسير دون أن نسأل أنفسنا: من نحن؟ ولماذا نحن هكذا؟ كيف تحولنا إلى أشباه كائنات تنام وتصحو على هامش الحياة؟
العالم يسير، لا ينتظر من يعانق الذكرى أو يبرر عجزه. يسير، يركض، يتغير، ونحن لا نزال نكتب على الحيطان، ونوقع “بالمعذبين” ونحفر قلوبا دامية، كأننا نعيد كتابة التراجيديا نفسها منذ الخليقة. لا نحتاج إلى ثورة ضد العبثية فقط، بل إلى انتفاضة وجودية تعيد تشكيل وعينا، تكسر “المركب الإسقاطي” الذي يجعل الآخر دائما سبب تعاستنا…
وحده من يحدق طويلا في الفراغ، كما قال نيتشه، يخشى أن يحدق الفراغ فيه يوما. ونحن الآن، عيوننا تتورم من الفراغ، ولا أحد يجرؤ على الاعتراف…

