بقلم سعيد حجي
كانت المرأة تحمل طفلا على ظهرها، وطفلا آخر تجره خلفها كما يُجر خروف صغير، نصف سرواله ساقط على مؤخرته، والمارة لا يلتفتون، كأنّ البؤس صار من أثاث الشارع، مشهدا عاديا لا يستحق التوقف…
كانت هي تمشي بخطى ثقيلة، يتهدج جسدها، كأنها تجر هزيمتها لا أبناءها، تنتعل حذاء بلاستيكيا رخيصا، وترتدي بلوزة باهتة فقدت لونها كما فقدت صاحبتها بعضا من كرامتها. الفقر كان صارخا، لا يطلب شفقة، بل يُعلن وجوده ككائن عضوي يمشي على قدمين…
الرجل كان قد سبقها بأمتار، يتوقف عند زاوية الشارع، يلتفت، ينتظر وصولها لا ليطمئن، بل ليكيل لها شتائم مقززة ويطلق تشبيهات حيوانية، كأن الكلمات لم تعد وسيلة تواصل، بل أدوات تعذيب تُلقى بلا شفقة…
في لحظة خاطفة، مرّ المشهد أمامي، لكنه اخترق شيئا عميقا بداخلي. تساءلت: هل كان يجب أن يحدث هذا الزواج أصلا؟ وهل كان على الحياة أن تُمنح لطفلين بهذا الشكل المأسوي، إلى محيط أسري هش، يتشقق من أول خطوة؟ حين يكون العنف هو اللغة الأولى التي يتلقاها الطفل، فإننا لا نربي بشرا، بل نعيد تدوير الخوف…
الفيلسوف الألماني شوبنهاور كان يرى أن الوجود هو نوع من العذاب، وأن الحياة لا تساوي الكثير إلا إذا مرّت عبر الألم. لكن حتى شوبنهاور، لو رأى هذا المشهد، لصمت أمام هذا القهر اليومي البسيط، الذي لا يُكتب في الكتب، ولا يُذكر في المؤتمرات.
الرجل لم يكن ينهر فقط، بل كان ينسف في لحظة واحدة كل ما تبقى من قيم، حين وصفها بـ”الحمارة”، كأن اللغة نفسها خانت معانيها.
هذا قد يسميه علماء الاجتماع بالعنف الرمزي، حين تصبح الكلمات أداة للهيمنة لا للتواصل. وتلك اللحظة كانت صورة مكثفة لسقوط أخلاقي يتجاوز الفقر، لأن الفقر لا يُفسر وحده البشاعة…
قلت في قرارة نفسي، لو كان هذا هو المصير، فليتني أبقى سليباتيريا، لا أشارك في هذا النسل المتورط في إعادة إنتاج البؤس جيلا بعد جيل…
أفكر: أيّ عدالة تلك التي تترك البشر يتوالدون في الفوضى؟ أيّ عقد اجتماعي صامت جعل الزواج أشبه بمشروع ألم مؤجل؟ الطفل لا يفهم الشتائم، لكنه يخزنها، يضعها في ذاكرته كندبة. والطفلة التي تُهان أمها أمامها، لن تحتاج لكثير من الزمن كي تفهم أن المرأة في عالمها لا تساوي سوى الصراخ فوق رأسها…
هكذا كانت المأساة تمشي على الرصيف، في صمت مدوٍّ.
السماء لم تمطر..
العابرون لم يلتفتوا..
والطفلان لم يختارا أحدا مما سبق…

