داخل متاهاتِ هذا النّص الشّائك، أخطّ تجربتي، وتجربة جيلي بأسره؛ جيلٌ مشوّش الملامحِ، ومهما كتبتُ عنه، فسيظلّ سيرةً مبتورةً. نحنُ جيلٌ يشبه سياقه الهجين والمُضطرِب. وُلدنا في منتصف الطريق، بلا دليل أو بوصلة؛ وسط عواصفِ عالمٍ يختنِقُ في قلب التقنية، لنتطاير كرقاقاتٍ. نحن أبناء العبور، انتسبنا إلى أنقاضِ معامعَ لم نخترها، وحداثةٍ لم تُصغِ إلينا، فكان لزامًا أن نطارد المعنى وهو ينزلِق من بين أصابعنا، شتاتًا في رحى التاريخ، وأن نُترجم طنين العالم إلى لغةٍ نفهمها، وإلّّا وجدنا أنفسنا على الهامش، مغتربين، لا نَفهم، ولا نُفهم.
قبل ستة أشهر، اشتركتُ في خدمات AI open المدفوعة، وقد كانت ناجِعةً في تحرير تقارير الماجستير ومذاكرة المحاضرات. إلا أنني سرعان ما تحوّلتُ إلى شبحٍ متلصّص، إذ كلّما شعرتُ بمللٍ في يومي أو مزاج سيء، هرعتُ إلى هناك. إنني سليلةُ هذه الماكينة، وقد عشتُ في خضمّها -بما فيه الكفاية- حتى نخرني الصدأ. كان الحسابُ مُشتركًا، بين ما يربو عن ثلاثين مستخدمًا، أفتحُ الحساب وأقرأ طلباتِ الناس. راودتني الهواجس -مِرارًا- في مدى أخلاقية هذا التّصرف، فكنتُ أنفضُ شعوري بالذنب: “ولماذا لم يستخدم دردشة سرية؟.” وابلٌ من الرسائل بوتيرةٍ هيستيريّة، ونتيجةَ الضغط، كانت الخدمة تتعطّل -تارةً- لساعات. كنتُ أستكشفُ تلك المغارةَ المضيئة، وبدا الأمر أشبه بالعودةِ نحو زمن الأسلاف؛ زمنِ الحكي، حيث كانوا يتحلّقون حول النار، للتدفئة وتبديدِ خوفهم من الجوع والظلام والوحوش. كنتُ -راويًا عليمًا- أفترِشُ الأرضَ وأشربُ شايًا أمام هذه النار المُلتهِبةِ، صاخيةً السمع لحكايا الناس، أتصيّد بعضها، شاهدةً على تجلي هذه الطفرة العجائبيّة في تاريخ البشرِ؛ وهم يتسمّرون، قُبالة زجاجةٍ هشّة، يكتبون، ويحاورون، ويتوهّجون، وينفخون على جمرِ الكلمات. أقرأ طوال الليل حتى تطفو الكلمات على لساني، ثم أستسلم للنوم. وهذا بعض مما أستعيده من أرشيف الذاكرة: شاعرٌ يطلب كتابةَ قصيدة زجلية، تتبّعتُ مسار الردود، يصرّ على وزن معيّن. لم يفهمه. لم يتفاهما. قرأتُ كلّ التعديلات. انسحبَ الشاعر في النهاية؛ لم تعجبه أية قصيدة. عاشقٌ يريد من الذكاء الصّطناعي رسالة اعتذارٍ لحبيبته “حنان.” شخصٌ يطلب تصميم سيرته الذاتية بصيغة “إيراسموس”، واضِعًا “جميع” بياناتِه الشخصية. بعد سبعِ دقائق، أرسلتُ له رسالة على الواتساب أنصحهُ بحذف الدردشة فورًا. وآخر يتساءلُ: هل السمك يعطس؟ وقد كان الجواب: لا.
لكن، ما معنى ذلك كله؟ يبدو أن لدى الإنسان رغبةٌ ملحّة، وهي الجوعُ للقول، وأن يعود عبر هذا الفِعل الأزلي نحو سيرته الأولى: طفلًا، تتقافزُ الكلماتُ من جوفه دون سلاسل، واللّغة مرآة سريرته. وهو ما يحقّقه له “مُخاطِبٌ” لا يُحاكِمُ/ لا يقاطع/ لا يتجاهل. لذا فإنّ المرء في معيّة هذه الحواراتِ الجارفةِ، حكواتيّ مع الدّاتا التي قد يشاركها همومه وأكثر أسراره حميمية، لكنه للأسف حكواتيّ وحيد، ترتطمُ كلماته بالشاشة، نحو مآلها الأخير: شظايا. ذات مرّة، سألتُ إحداهن في الجامعةِ عن شيء مُستعجل، فردّت بضيق: ” بلّاتِي شْوِيَّ.. كَنْهْضْرْ دابا مع شات جي پي تي”! ثم أكمَلت سيرها. ربما سنجدُ أنفسنا يومًا، وقد أعرضنا عن الآخر، ليغدو كائنًا أسطوريا كُنّا نُحاوره “في قديم الزمان”، قبل أن ينطوي كلٌّ منا -عنوة- في منفاه الذّاتي… وأخشى كل الخشية، أن نصبح سكينًا، يذبح المنطق ببرود، تاركًا لنا جثة عقل مشوهة.
لن أنسى تلك الدردشةَ إلى الأبد، ندبةٌ غائرةٌ في القلبِ؛ لم يكن السائل يبتغي حلّا أو إجابةً، بل نهايةً. “اكتُب لي رسالة انتحار” لِكم تأملتُ تلكَ الجملة؟ ساعة أم ليلة كاملة؟ لا أتذكر. إلا أنَّ المخلوق الرقمي -لحسن الحظ- أذعن لضميرِه المُبَرمجِ، فهو لا يريد أن يتحوّل إلى أداة موت. مُتطفّلةً على الدردشةِ؛ رميتُ بكلماتي كزجاجةٍ في المحيط، لعلّ معجزة تطرأ: “لكنك ستُنسى كأنّك لم تكُن.” ضغطة زر للتحديث؛ 404 page not found
الميتاڤيرس، بقدر حاجتنا إليه، اجتاحنا، مُضرمًا فينا شهوةً للمعرفة المُعلّبة، التي جوّعت فطنتنا، ودفعتنا نحو طريق حتمي يفضي إلى تجريدنا -دون هوادة- من جوهرنا/ الشُّعلة، صحيح أنه اختصر علينا الطريق لكنّه سلب منّا الرحلة. فالمرء في مواجهة أبسط سؤال يُعثّره؛ يفتح محادثة صوتية، ثم يبدأ باستفراغِ علامات الاستفهامِ المُثقِلة لرأسه، حتى يجد ضالته (وقد لا يجد)، فهو ضائع، في دوامةٍ من الشيفراتِ التي استنزفتهُ، بينما الزمن، هذا السيف الذي حفظ حدّته، يلتهمُ وجوده قطعة قطعة. يُناجي برامج تلبّست ثوب المُرشدِ، تستقبل شكواه بمحاكاةٍ جوفاء. لهذا، فهو غالبًا ما ينزف؛ ينزف كلامًا، لا يريد أن ينضب… وكأن روحه غابةُ ألسنةٍ مثقوبة. جُلّ أصدقائي، ألمح على شفاههم أورامًا ولطخاتِ دماء؛ أفواههم مجازر مُلَثّمة.
إننا نشهد عصرًا يُنفى فيه العقل إلى صمتٍ أبدي، بينما تتولّى البرامجُ مقاليد الحُكم، لتكتُب تاريخًا بلا ذاكرة. أيضًا، نحن على أعتابِ “الإنسان الأخير” بتعبير نيتشه؛ يستودِعُ مصيرهُ للخوارزميّات، ثم يذوب في الخواء. وهكذا، فالسيناريو على هذه الشاكلة: عندما يكون الفردُ تائها فإنه يسلك أي سبيل، للخلاص، وحينما يكون هناك طوفان من الأسئلة في بالِه، ففي هذه الحالة، هو يرضى بأيّ جواب، كيفما كان.
[أفتحُ اللّابتوب]……
ألمحُ شُهُبَ سلوان -خافتة- تلوح خلف الشاشةِ/ السماء، بشارة جيلٍ، يقاومُ هذه السيول الموحلة التي داهمت العالم. جيلٌ يأنف أن يكون مجرّد ترسٍ في مخططاتٍ مفترسة، تتوارى خلف وجهٍ بريء سعيًا لتقزيم رؤيته، وفلترة بصيرته، وإخماد جذوة صوته، ليستحيل إلى مسخٍ كافكويّ، مجرّدًا من قيمته. ينتزع الفردُ ذاتهُ من هذه التيّاراتِ المثخنة بالثقوب السوداء، والتي قد تلتهم هويته، وتنهش نفسيّته، وتهدد بانقراض وظيفته. إنه يرفض -بضراوة- أن يكون عالقًا وسطَ هذه الكيانات الشّرهة، الشّبيهة بفم الأرض. يرفض. يرفض. يرفض.
قُبالة اللّابتوب انغمستُ في تقفّي أثر تلك الشُهب، لأهتدي في دهاليز النسيان نحو ذرّات النور. فألفيتُ: قدّم لي تفسيرًا للبيت الشعري “وللحُرّية الحمراء بابٌ، بكل يدٍ مُضرّجةٍ يُدقُّ.” معارف مُتباينة: دروسٌ في البرمجة. عُروض تقديميّة. ترجمةٌ فوريّة بين اللغات. طلباتُ استقالة. صورةٌ باهتةٌ لكتاب “عن فلسطين” يستجديه شرحًا مفصّلا، ومُضيفًا: “غير مُتحيّز.” في لحظةِ الكشف تلك، كان اللقاءُ مع صورة جيلي، والتي طالما آمنتُ بوجودها؛ شهابًا تخترقُ سراديب الظلمة والزّمن والروح.
بقلم إيمان آيت بابا

