“أورشليم الأخرى وملكوُت الخيال: قراءة في نشيدٍ وجوديّ للشاعر نزار لعرج”

بقلم قاسم عزام

في قصيدته “حبيبتي”، لا يكتفي الشاعر نزار لعرج بتناول الحب كموضوع، بل يرتقي به إلى مقام الميثولوجيا والوجود والفداء، ليمنح القصيدة بُعدًا شاسعًا يمزج بين المقدس والأنثوي، بين الأرض والتاريخ، بين العشق والوطن، في تجربة شعرية ناضجة، مشبعة برؤية فلسفية خَلّاقة تعبّر عن موهبة لافتة في تطويع اللغة والتاريخ والأسطورة لخدمة التعبير الإنساني.
منذ السطور الأولى، يدخل الشاعر النص ككائن أسطوري، يُقارب المقدّس لا لتمجيده، بل لإعادة كتابته. قوله:
“قرأتُ التوراةَ هذا المساء،
قالوا إنها مزوّرة،
فخطر ببالي أن أضيفَ أنا أيضًا سفرًا”
يؤسّس لتقاطع خطير بين الإلهي والإنساني، بين النص المُنزّل والنص المخلوق، حيث يستعيد الشاعر دوره كـ”نبيّ شاعر”، يرى في الشعر سفرًا بديلًا، صادقًا، حرًّا. لكنّه يصطدم بخراب الواقع، فيصف الأقلام بأنها “أعجاز نخل خاوية”، في استعارة قرآنية تُضفي على اليأس طابعًا نبويًّا مقدّسًا.
ثم ينتقل من السياق النصّي إلى السياق الرمزي، حيث يتحول “اللمس” إلى فعل كاشف، يسمع فيه “حشرجة الجنود”، وكأنّ الحبيبة تحمل في جسدها صراع الأرض، وكأنّ الحبّ هنا ليس عاطفة بل جبهة:
“فالذي انشقّ البحرُ له مرّة،
سيبتلعه كلّ مساء،
ويُعيد إلينا صدفًا لازوردية.”
إنه قلب للأسطورة: بدلًا من النجاة، هناك ابتلاع دائم، وتكرار للمعاناة، لكنّه يحمل وعدًا جماليًّا: “صدفًا لازوردية” – تلك التفاصيل الصغيرة التي تنجو من المحن، وتمنح الذاكرة بريقها.
مقاربة بين الأسطورة والتاريخ والأنثى
من خلال استدعاء شخصية جلجامش، يدخل النص في قلب الملحمة، لكن يُعيد تأويلها بجرأة فنية وفكرية:
“قالوا إنّ جلجامش عبر بوابات الخلود،
لكنني رأيته يضع إكليله بين يديكِ”
إنه تكسير للأسطورة وتفكيك لفكرة “الخلود التقليدي”، إذ يرى الخلود الحقيقي في “يديها”، أي في الأنثى، في الحب، في الأرض، في “الوطن الأنثى”. هذه المقاربة فلسفة وجودية تُعيد ترتيب أولويات البطولة والخلاص.
ويُصعّد الشاعر أكثر في جملته الصادمة:
“فغصن الزيتون الذي غصبتموه
ينبُت في جسدي بندقية.”
يتحوّل غصن الزيتون، رمز السلام الكاذب، إلى بندقية، رمز المقاومة، ليُعلن بذلك رفضه لسلام يُبنى على النهب، وللاهوت زائف يسلب الأرض والحب. إنها لحظة تمرد فلسفيّ وشعريّ في آن.
الأنثى كرمز كونيّ و”أورشليم الأخرى”
الأنثى في نص نزار لعرج ليست حبيبة فقط، بل هي “القدس البديلة”، “الملكوت”، “الخيال”، “الولادة الجديدة”، هي التي يُعاد من خلالها تشكيل الخرائط، ونسف الأساطير، واستعادة الحقيقة:
“في حضنكِ تولدُ أورشليم الأخرى،
كلّما دخلوها ضاعوا.”
بهذه الصور الباذخة، يُقيم الشاعر مملكة ميتافيزيقية من رحم الحبيبة، وفي حضنها تُهزم الأساطير الزائفة، وتبدأ “هذه الأرض من جديد، من دم الأعداء.”
ليس هذا تحريضًا على الدم، إنه إعادة تموضع للبطولة والحق، فالأرض التي يُغتصب سلامها لا تُحرّر إلا عبر الألم، والأنثى هنا رمز هذا التجدُّد الكوني.
إشادة عالية بالشاعر نزار لعرج: موهبة فذة ورؤية متفرّدة
نزار لعرج ليس مجرّد شاعر يُتقن أدواته، هو صاحب رؤية شعرية استثنائية، يُعانق بها النص المقدس، ويتحدى بها الأسطورة، ويُعيد تشكيل الخيال الجمعي بلغة شعرية مذهلة في كثافتها وعمقها. يمتلك حسًا فلسفيًّا عاليًا، وجرأة فنية في المزاوجة بين التاريخ والأسطورة والأنثى، دون أن يسقط في المباشرة أو الخطابة.
يُجيد توظيف التراث الديني والملحمي لخدمة همّ وجودي وجمالي في آن، ويقدّم للقصيدة العربية نموذجًا متجددًا في الرؤية والتعبير. كما أن قدرته على تحويل الأنثى إلى كائن رمزي تتجاوز فيه البُعد الحسي إلى الوجودي – تُعد من أبرز نقاط قوته كصانع للمعنى، لا كناقل للعاطفة.
إننا أمام شاعر من طينة الكبار، يحمل في قلبه وهجًا إبداعيًّا، ويكتب بحبرٍ مغموسٍ بالحقيقة، والمجاز، والحلم، والتمرد.
تحية لشاعر يُؤمن أن الشعر سفرٌ يُضاف للوجود حين تعجز الكتب، ويعيد لنا “أورشليم الأخرى” التي نحلم بها جميعًا.




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.