بقلم سعيد حجي
في زمن فقدت فيه الهويات معناها، لم يعد الجيل الصاعد يربّى، بل يُترك، يُطلى بمساحيق التمدن وهو فارغ من الداخل، هشّ، سهل الانكسار أمام أول اختبار. جيل لا يعرف سوى الزجاج المعتم لهاتفه، يتأمل فيه نفسه أكثر مما يتأمل مصيره، يحفظ أسماء “المؤثرين” أكثر مما يحفظ أسماء أجداده، يلهث خلف صيحات الموضة، ويحسب أن الحياة تبتسم لمن أحسن ارتداء حذائه…
رأيت صباح اليوم تقريرا تلفزيا في روسيا، أطفال في المدرسة الابتدائية يتعلمون هندسة الطائرات، وفك رموز الحرب، يعرفون أن العالم يتجه نحو النار، فيستعدون بالماء والعتاد، لا بالتصوير و”الفلترات”. مقارنة مؤلمة، لا تُقصد بها السخرية، بل التحسر على مانصنعه نحن كأمة مدعوة في اول آية بكلمة “إقرأ”….
جيلنا هنا، يُبنى على رغوة، ليس فيه جذع ولا جذر. يُرَبى ليستهلك، لا ليصنع. جيل إذا تأخرت شبكته العنكبوتية نصف دقيقة، صاح كمن فَقد وطنا، لكنه لا يهتز حين تُفقد أوطان حقيقية، تُسفك فيها دماء، وتُنسى فيها قضايا، ويُستبدل فيها الحق بالإعلان…
قال ابن خلدون يوما : إذا رأيت الناس تكثر التضرع في المواسم، وتقل الصلاة في المساجد، فاعلم أن الفساد قد عم
ونحن اليوم، نكثر من التصفيق لكل شيء، ونقلد كل شيء، ونستهلك حتى التفاهة دون أن نخجل…
الطفل الذي تتركه يكبر داخل شاشة، لن يواجه العالم إلا بانكسار…
الشاب الذي لا يعرف معنى الجهد، لن يعرف يوما طعم النصر.
والأب الذي يسكت عن فوضى ابنه، يكتب شهادة موته مبكرا.
نحن لا نواجه جيلا تافها، بل نواجه بنية تربوية متهالكة، جعلت من الطفولة ملعبا للماركات، ومن الشباب مقهى مفتوحا لا يُغلق إلا عند الفجر…
جيل لا يسأل “ماذا سأكون؟”، بل “كم سأُتابَع؟”، لا يطلب علما بل شهرة، لا يرى في وطنه مشروعا بل عقبة…
قال الفيلسوف كورنيل ويست: مشكلتنا أننا نربّي أولادنا ليكونوا ناجحين، بدلا من أن نربّيهم ليكونوا صالحين.
وهذا بالضبط ما فعلناه…
نحتاج لإعادة ترميم العقل الجمعي، بدءا من البيت، مرورا بالمدرسة، وانتهاء بالشارع.
نحتاج إلى أن نربي أبناءنا على أن الفشل ليس نهاية، وأن التفاهة ليست ملاذا، وأن الضحك الزائد ليس سعادة، بل أحيانا قناع يخفي سقوطا داخليا لا يُرى…
من لا يبني أبناءه، سيبني سجونا لهم في المستقبل.
ومن لا يزرع فيهم الرجولة والصلابة، سيحصد التبعية والانكسار…
فهل ننتبه قبل فوات الأوان؟
أم سنواصل التفرج حتى يسقط الجيل كله،بل وقد بدأ يسقط عند اول صفعة في الحياة …!

