عندما تتحدث مع نفسك بصوت مرتفع..فهي لحظة صفاء نادرة

سعيد حجي

حينما تجد نفسك تتحدث بصوت مرتفع مع ذاتك في غرفتك دون شعور، لا تستغرب… فهذا ليس جنونا، بل لحظة صفاء نادرة. أنت لا تفقد وعيك، بل تستحضره بكل ما فيه من عمق وتشظي. يحدث أن تنفصل عن جسدك دون أن تغادره، وتتجسد ذاتك أمامك ككائن مستقل، تحاوره وتعاتبه وتستشيره، في حوار يبدو عفويا لكنه في جوهره فعل فلسفي بالغ الدقة. في تلك اللحظة، لا يعود الصوت وسيلة اتصال، بل يصبح مرآة، لا تعكس صورتك بل حقيقتك…
إن الحديث مع الذات بصوت مرتفع هو نوع من الانقسام الواعي بين ال”أنا” وال”أنا الأخرى”، تلك التي تشاهدك من الداخل وتحاورك بنبرة لا يسمعها أحد سواك. في لحظة كهذه، لا تعود الذات شيئا مبهما، بل تصبح حاضرة كصديق قديم يجلس قبالتك على مائدة الحقيقة، تحاسبه ويحاورك….
في لحظة الحوار الذاتي، تصبح اللغة جسرا بين ذاتين متواجهتين: واحدة تمثل الفعل والواقع، والاخرى تمثل الرغبة، التردد، القلق، التأمل. ووسط هذا التفاعل، يعمل الفكر كقاض، يزن الخيارات، ويصدر حكما غير مكتوب، لكنه نافذ في قراراتك اليومية. هنا نصل الى ما أشار اليه كارل يونغ حينما قال ان “من لم يعش في أعماق نفسه سيعيش حياة سطحية لا تخصه”…
صوتك وأنت تحاور نفسك ليس سوى أداة لتحريك العمق. اللغة تتحول من وسيلة تواصل مع الآخر، إلى مرآة حقيقية داخلية. إنها لحظة إدراك أنك كائن مركب، متنافر، مليء بالأضداد، وأن صمتك الداخلي لا يكفي لفهمك، فتستدعي الصوت كي تصغي الى ذلك العمق المهجور…
الحديث مع النفس تمرين فلسفي يومي، قد لا يملكه إلا من تعمق في الشعور بالوجود. انه لحظة تشريح وجودي، يستدعي منك ان تتوقف، ان تضع ذاتك تحت المجهر، كما يفعل الطبيب مع جثة… لكن هنا، انت المريض والطبيب والجثة في آن واحد…
هيدغر أشار بشكل خفي الى ان “الكائن لا يفهم ذاته إلا حينما يقف وحيدا في الوجود”، ولعل هذه اللحظة التي تهمس فيها الى نفسك، او تصرخ، ليست عزلة، بل اجتماع مكثف بين مكوناتك. هي شكل من اشكال العودة الى نقطة البدء، الى صوتك الداخلي الأول الذي رافقك قبل ان تتعلم اللغة الاجتماعية…
حين تتحدث مع ذاتك، انت لا تجن، بل تتحرر من جنون العالم، لتلجأ الى جنونك المتوازن، ذلك الذي لا يحتاج جمهورا، ولا تصفيقا. فقط صوتك، وصداك، وفكرك…
لذلك لا تخجل، بل استمر في هذه الطقوس السرية. إنها أسمى لحظات الصفاء، وأصدق أشكال الاعتراف. انها فلسفة، وليست عادة. انها استبصار، وليست اضطرابا. انها الحوار الحقيقي الوحيد الذي لا يكذب عليك…