ذ صالح اليوسفي
البر بالوالدين من أعظم القيم التي رسخها الإسلام في نفوس المؤمنين، ويظهر ذلك بجلاء ووضوح في كتاب الله عز وجل، حيث تتدرج الآيات في الدعوة إلى الإحسان إليهما، بدءا من الإيجاز المؤثر وصولا إلى التفصيل البليغ الذي يلامس أعماق النفس البشرية.
في البداية، نجد الدعوة إلى بر الوالدين تأتي بأسلوب موجز يعبر عن عمق التوصية، كما في قوله تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه حسنا”، هذه الاية القصيرة تختصر الكثير، فتشعر الإنسان بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه والديه دون الحاجة إلى مزيد من التفاصيل. ثم يرتقي القرآن بهذه التوصية، فيربطها بالتوحيد الذي يمثل جوهر العقيدة الإسلامية، كما في قوله تعالى: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”. هذا الربط العميق يضع البر في مقام سام، حيث يجعل الإحسان إلى الوالدين متصلا مباشرة بعبادة الله، مما يضفي عليه قداسة خاصة.
ومع هذا التدرج، يتوسع القرآن ليشرح كيفية البر بهما، خصوصا عند بلوغهما سن الكبر، حين تصبح حاجتهما إلى العناية أشد وأكبر، يقول الله تعالى في هذا الصدد: “إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما”. في هذا الكلام الرباني تنساب توجيهات الرحمة واللطف، فتصور أدق التفاصيل في التعامل معهما، حتى تصان كرامتهما من أدنى إساءة، ولو كانت همسا من ضيق أو تضجر.ثم تأتي الآيات التي تحمل في طياتها بيانا أعمق لفضل الوالدين، مذكرة بما بذلاه من جهد في سبيل تربية أبنائهما، خصوصا الأم التي عانت آلام الحمل والوهن والتربية: يقول تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير”. هذا التصوير الرقيق لمعاناة الأم يجعل القلب يمتلئ امتنانا، ويحث الإنسان على أن يكون وفيا لهما، مقرونا بالشكر لله الذي جعل الوالدين سببا في وجوده. ورغم كل هذا التأكيد على البر بالوالدين، إلا أن القرآن وضع حدودا واضحة تظهر توازن الشريعة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، يقول تعالى: “وإن جاهداك على أن تشرك بما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا”. في هذا التوجيه تتجلى رحمة الإسلام وعدله، حيث يحافظ على مكانة الوالدين حتى في حال وقوعهما في الخطأ، مع الحفاظ على التزام الإنسان بطاعة الله فوق كل شيء.
إن التدرج القرآني في الدعوة إلى بر الوالدين، من الإيجاز إلى التفصيل، يعكس أهمية هذا البر وعمقه في بناء مجتمع قائم على الرحمة والإحسان. فهذه الدعوة ليست مجرد كلمات، بل هي أساس لعلاقة سامية تعزز الروابط الإنسانية وتجعلها أكثر نقاء وصدقا.