كريمة نور عيساوي
في رحلة الحياة الطويلة المخضبة بالمعاناة، تبتلعنا المسافات، نحط الرحال في سماء الأفكار، نؤثث فضاء زبرجديا من أجل استنشاق نفس نقي في عالم مرهق، واستكمال المسير المعتق بالرحيق الغيبي. لعلنا نحاول أن نصفف شيئا من التعب الذي يثقل كاهل تفكيرنا، أن نرتبه في صوان الليالي الحالكة أو نطمره في خوابي النسيان؛ كثيرا ما نطمح لإبرام صلح مع ذواتنا المنهكة من عبء الانتظار ومرارة الانشطار، أن نسامحها على سذاجتها النقية، وأن تغفر لنا تلقائيتنا العفوية بعد أن اقتنصت الماديات طفولتنا الممتدة في عالم موبوء. عالم لايشرق فجره على الذين يعيشون أمسه؛ أما الذين يتطلعون للغد فقد ضحوا بأمسهم في انتظار المجهول ليتهم يدركون أن كل ليل يذوب عند باب الفجر، وأننا حتما سننتصر.
هي لحظات نادرة في عالم نادر قلما تتحقق بمثل هذا الصفاء، فقد أصبح الموت يبتلع كل شيء جميل فينا؛ كل يوم يموت في أعيننا الكثير من الناس فندفنهم في غياهب النسيان، لكن نترحم على أنفسنا الطيبة التي ماتت من جراء قسوتهم علينا؛ حياتنا أصبحت ترتدي قناع تشاكي على ركح كوميديا ديلارتي، الكل يهرول في سباق مستمر لامتلاك المستحيل والمتخيل، كل شيء يمر بسرعة؛ الأيام الساعات الدقائق الثواني، نهر يندفع صبيبه بقوة جارفة، يطمس معالم الإنسانية فينا التي اعتقلت في سجن الأنانية؛ أتحسس ذاكرتي أين الأمس بأصدقائه؟ وقبل الأمس بعائلاته ؟ والشهر الماضي بالوعود التي قطعت فيه ؟ أين أحلامنا التي صففناها في سلة الأمل؟ أين هي تلك الومضات التي صغناها على عجل … ، تتسارع الصور وتمتزج الألوان ولا أرى إلا بقايا عظام على قطعة بيضاء تتفسخ لتلتئم بأصلها الأول، أنا من تراب.