بقلم الأستاذ سعيد محتال
النص عبارة عن رحلة داخلية لشاعر يبحث عن معنى للحياة والحب في سنواته الأخيرة. إنه تعبير عن الشوق إلى الهدوء والاستقرار بعد عاصفة من الأحداث والأحزان. كما أنه يطرح تساؤلات حول طبيعة الحب وكيفية تجاوز آلام الماضي للوصول إلى السعادة.
أسئلة عميقة يثيرها النص:
* هل الحب في سن متأخرة مختلف عن الحب في الشباب؟
* كيف يمكن للفرد أن يتغلب على آلام الماضي ويعيش الحاضر؟
* ما هو دور الماضي في تشكيل هويتنا؟
* كيف يمكن للشعر أو الفن أن يكون وسيلة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس؟
تعتبر القصيدة مرآة عاكسة للروح الإنسانية، تحمل في طياتها دوافع وأفكارًا لا شعورية تتجلى من خلال الرموز والأحداث والشخصيات. من هذا المنطلق، يمكننا أن نقوم بالتركيز على البعد النفسي لها، للكشف عن العمق الشعوري للشاعر والعالم الداخلي الذي يعيشه.
هناك مؤشر على الحنين إلى الماضي، يظهر هذا الدافع بوضوح من خلال وصف الشاعر لـ”بيت أناخ البحر” كرمز إلى الماضي والذكريات المؤلمة، وهو مكان متهدم يحكي قصة حياة صعبة.
و”بقايا عشب مشرد”، مما يدل على رغبته في استعادة ذكريات الماضي، ورغبة في التعويض عما فات.
مما يعكس نوعا من الخوف من المستقبل، الشعور بالضياع والنقص:
ف”امرأة ترتدي نصف الصورة”: تشبيه امرأة بلوحة ليوناردو دافنشي التي تفتقد نصفها، ويرمز إلى شعور المرأة بالضياع والنقص، وكأن جزءًا منها مفقود أو غير مكتمل. قد يعكس هذا الشعور تجارب سابقة أو خسائر شخصية أحدثت فجوة في حياتها. أو أنها في حاجة إلى الجزء الثاني الذي به تكتمل الصورة،
كما أن الشاعر لديه قلق ومخاوف تجاه المستقبل، وذلك من خلال وصفه لـ”ظل” فقد جسده، و”متاهات النرد”، وهذا يشير إلى عدم اليقين والخوف من المجهول.
“في بيت أناخ البحر سقفه”: البيت المهجور والسقف المتهدم يرمز إلى الماضي الذي دُمر أو إلى حياة فقدت بريقها. قد يكون هذا البيت استعارة لذكريات مؤلمة أو علاقات انتهت.
وهذا ما ولد الرغبة في التواصل والتعبير:
“ليحكي للسماء”: والسماء هنا تمثل الفضاء الشاسع أو القوة العليا، فالمرأة تحاول التواصل معها وكأنها تبحث عن معنى أعمق للحياة أو تطلب العون.
ومقارنة الشاعر بين مزيج الماء والملح في العيون (الدموع):
“عن حميمية الماء للملح في العيون”
ليقارن بين عمق دلالة المشاعر الإنسانية المعقدة، وبين عمق العلاقة الإنسانية، ويؤكد على الرغبة في التعبير عن مشاعر عميقة وحقيقية.
ليعيد ترتيب ما بقي في البيت، على الرغم من حالة الدمار التي تعرض له سابقا، وهنا يأتي دور المرأة في ترتيب ما تبقى، وهذا يدل على رغبة في إيجاد النظام والجمال حتى في وسط الخراب. قد يكون هذا رمزًا لقوة الإنسان وتصميمه على الحياة.
لينتقل بعد ذلك الشاعر لوصف معاناة الماضي بكل وضوح ؛
” قبل ستين عاما كنت أتجرع الوحل
أستخرج من مرارة التراب
بقايا عشب مشرد ”
مما يشير إلى حياة قاسية مليئة بالصعاب والتحديات ” أتجرع الوحل “. والأمل المتداعي ك” بقايا عشب مشرد يستغيث من ذل السنين” يرمز إلى بقايا الأمل التي كانت موجودة في الماضي، ولكنها تضاءلت مع مرور الزمن وتراكم الأيام القاسية المؤلمة.
بعد كل هذه المعاناة يأتي الحب كمنقذ، حيث يشبه الشريك ( المرأة ) بـ”لات للعرب”
اللات والعزّى : رموزٌ وثنيةٌ في شبه الجزيرة العربية
بمثابة إلهتين رئيسيتين لدى العرب قبل الإسلام. كانتا تُعبدان إلى جانب إله آخر هو مناة،
وكانت اللات تُعتبر إلهة الأمومة والخصوبة، ويرمز إليها بالقمر. وكانت تُعبد في الكعبة المشرفة قبل الإسلام.
أما العزّى فكانت تُعتبر إلهة الحرب والشجاعة، ويرمز إليها بالنجم.
يصف الشاعر هنا المرأة بشكل مجازي مشبها إياها باللات، حيث يصورها على أنها قطعة فنية من صنع الإنسان، مزيج بين مادتين أساسيتين في البناء هما الخشب والطين، شيء بسيط ومتواضع، ولكنه يوفر الدفء والحماية.
الخشب: يرمز إلى القوة والصلابة والاستقرار، كما يرمز إلى الجذور والتاريخ.
أما الطين فيرمز إلى المرونة والتشكيل والقدرة على التكيف، كما يرمز إلى الأرض والأصل.
الشاعر يصور المرأة العربية على أنها أساس المجتمع، قوية ومتينة كالخشب، ومرنة وقادرة على التكيف كالطين.
مادتان تركزان إلى عمق جذور هذه المرأة في التاريخ والتراث العربي.
وبذلك تعد المرأة العمود الفقري للمجتمع، تجمع بين القوة والرقة، وهي صانعة الأجيال وحافظة للأسرة والمجتمع.
في وجه الظل المفقود: “ظلي الذي فقد جسده” يشير إلى فقدان جزء من الهوية أو الذات، وكأن الشاعر يشعر بفقدان جزء أساسي من ذاته.
وكلمة التبطين المشار إليها في النص تدل على عمق الشعور بالفقدان، وكأن الظل قد اختفى إلى الداخل، وأصبح جزءًا من نفسية وكيان الشاعر.
كما يشعر أن ظله ضائع في هذه ” متاهات النرد “، وكأنه قد اختفى في لعبة حظ لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
ظلّ (شعور) “يطفو مع الدمع”، وكأن الظل أصبح خفيفًا كالريشة، يتأرجح مع كل حركة. ومن شدة لينه ذاب في بحر من الدموع.
الدمع: يرمز إلى الحزن والألم.
ليضيف تشبيها آخر لزيادة تأكيد المعنى “كمكعبات من فلين”:
يشدد على حالة الخفة والانعدام، فمكعبات الفلين تطفو على سطح الماء، وهي رمز للهشاشة والضعف.
وهذه المعاني جملة وتفصيلا تحيلان إلى التأكيد على رقة وهشاشة قلب الشاعر تجاه من يحب.
وقد لعب التشخيص دورا مهما في إضفاء صفات بشرية على الظل( ينقرض ويطفو.)
بالاضافة الى اعتماد التضاد ليبين حالة الوجود والفقدان، وبين الثبات والانسياب.
ومستخدما عدة رموز كما رأينا مثل المتاهات والنرد والدمع والفلين لتعزيز معنى الهشاشة والفقد.
” لا شيء أشد فتنة بالنسبة لي
من زنبقة
كانت تزين شكلي في عينيك
حين تأوينني
تسألني باستمرار إن كنت أعشقها
وقد منحتها مع كل قصيدة مخطوفة
شهادة – عزاء –
لتحاكم امرأة هاربة من قلبي المستكين ”
الشاعر يعبر عن إعجابه الشديد بجمال الزنبقة، لدرجة أنها أصبحت بالنسبة له أكثر الأشياء إغراءً وجاذبية. الزنبقة هنا ليست مجرد زهرة، بل هي رمز لكل ما هو جميل وأنيق في نظره ( المرأة )،
التي تعد بوابة لدخول عالم من المشاعر والأحاسيس،
الزنبقة هي: رمز للجمال والأنوثة والنقاء. كما تعني الفتنة في بعض الثقافات، فقد تعني الإغراء وإثارة الاضطراب الداخلي.
واستسلام الشاعر لأحاسيسه أوقعه في شراك البساطة اللغوية( لا شيء أشد.. ، بالنسبة لي .. ، كانت تزين شكلي في عينيك ..، تسألني باستمرار إن كنت .. ، وقد منحتها مع كل قصيدة..)، والسرد المتكرر دون التفكير في بناء صورة شعرية ذات بعد جمالي أكثر، وهذا ما لاحظناه في تكريره لأسلوب التشبيه والتمثيل والوصف، بدل الغوص في انزياحات تترك المجال للتخييل والتدبر للمعاني بشكل أعمق…
ليعبر الشاعر عن حبه العميق لهذه المرأة، والذي يصفه بأنه “مستكين”:
“لتحاكم امرأة هاربة من قلبي المستكين”.
وفي ختام النص سيحاول الشاعر من خلال استعمال أسلوب النداء كي يثبت براءته وحبه للمرأة التي يخاطبها ( المرأة كنصف المجتمع ):
” يا سيدتي
أنا ما كنت مجرما ، كي أنتحل صفة قابيل إلى الأبد
ولا مرتدا كي أستبدل أصل العزى الخشبي بديني
أنا مكشوف تحت الشمس
أعبر عبر القلب المملوء برائحة النعناع
إلى ظلك الحصين ”
إذ يشعر الشاعر بأنه مظلوم ومتهم زوراً، وهو يحاول بكل قوة أن يثبت براءته ودفاعه عن كرامتها.
“يا سيدتي أنا ما كنت مجرما”:
إنكار صريح لأي ذنب أو خطيئة، وهو تأكيد على براءة الشاعر ونقاء سريرته.
حيث عاد الشاعر إلى الخطاب المباشر ،
لينفي عنه صفة قابيل الذي قتل أخاه:
“كي أنتحل صفة قابيل إلى الأبد”
وفي ذلك إشارة إلى عدم ارتكابه أي جريمة تستحق العقاب.
(قابيل بن آدم عليه السلام الذي لم يتقبل الله قربانه؛ لسوء نيته، وعدم تقواه،)
فأتى به الشاعر للتأكيد على براءته من أي ذنب تجاه المرأة.
“ولا مرتدا كي أستبدل أصل العزى الخشبي بديني”:
حيث ينفي ارتداده عن دينه أو معتقداته، وهو تأكيد على تمسكه بأصوله وقيمه.
واستعارة “أصل العزى الخشبي” فيه إشارة إلى شيء عزيز ومقدس،
“أنا مكشوف تحت الشمس”:
صورة بصرية تعكس حالة الشفافية والوضوح، وكأن الشاعر يضع نفسه تحت الأضواء ليبرئ ساحته.
فيصف القلب بأنه مكان مليء بالنقاء والانتعاش، رائحة النعناع تعبر عن مشاعر الحب والصفاء
وهذا ما يسهل عليه ولوج القلب الحصين .
فالسرد دل مسيطرا على الايقاع العام للقصيدة.
والسرد الشعري هو أسلوب يجمع بين بساطة اللغة وقوة الحكي، وهو أداة فعالة للتعبير عن الذات والعالم من حولنا.
يتميز السرد الشعري بقدرته على نقل المشاعر والأحاسيس بطريقة سلسة وميسرة،
يبدأ السرد في النص بصورة امرأة ترتدي نصف امرأة في لوحات ليوناردو دافنشي، وهي صورة رمزية تعبر عن حالة من النقص أو الانقسام. ثم ينتقل الشاعر إلى وصف حالة منزل مهجور، ويستخدم ذلك لربط الماضي بالحاضر، حيث يتذكر تجربته المريرة في الماضي.
بعد ذلك، يتحدث الشاعر عن لقائه بالمرأة التي يحبها، ويصفها بصور شعرية جميلة، كأنها “لات العرب” و”مزيج من خشب وطين”. ليربط الشاعر بين حبه لهذه المرأة وبين ظله الذي فقد جسده، مما يعطي انطباعًا عميقًا بعمق العلاقة بينهما.
يتطور السرد إلى وصف حالة من الفقدان والحزن، حيث يشعر الشاعر بأن ظله ( المرأة ) ينقرض ويطفو مع الدمع. ثم ينتقل إلى وصف جمالية الزنبقة التي كانت تزين شكله في عين حبيبته، وهو ما يعكس مدى تأثير هذه المرأة على حياته.
في الجزء الأخير من النص، ينكر الشاعر ارتكاب أي خطيئة، ويؤكد على براءته وصدق مشاعره. معتمدا في لغته الشعرية على التشبيه والتشخيص..
لعب كل من الشاعر والمرأة التي تدور حولها الأحداث دورا بارزا في البناء السردي :
اللقاء بالمرأة، وصف حالة المنزل المهجور، التعبير عن الحب والفقدان، نفي أي ذنب.
ويتنقل السرد بين الماضي والحاضر، وبين أماكن مختلفة.
يتميز السرد في النص بطابعه الانطباعي، حيث يركز على وصف المشاعر والأحاسيس أكثر من الأحداث الخارجية، للتعبير عن الذات.
ليخلق الشاعر عالمه الشعري الخاص به، حيث تتداخل الحقيقة والخيال.
بشكل عام، يمكن القول إن القصد السردي هو بمثابة النوافذ التي نطل بها على عالم الشاعر، والتي تسمح للقارئ برؤية العالم من منظور الشاعر، وتجعله يعيش التجربة بنفسه.
ليصبح بذلك نص “الحب بعد الستين” نص مؤثر، يلامس جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية، وهو دعوة للاحتفال بالحياة والحب في كل مراحل العمر. فالنص بمثابة رسالة يسعى الشاعر إلى إيصالها من خلال السرد القصصي. ليقدم تجربة إنسانية واضحة دون أي لبس، يسعى من خلالها نقل مشاعره وتجربته الشخصية للقراء.
ويمكن أن يتضمن القصد السردي توجيه نقد إلى قضايا اجتماعية، تحتاج إلى إعادة النظر في العلاقات الإنسانية أوالزوجية ..
لذا، من المهم أن يكون القصد السردي واضحا للقراء، حيث يؤثر على كيفية فهمهم للأحداث وتأثير الزمن في العلاقات.
باختصارفقد لعب السرد دورا كبيرا في الكشف عن مجموعة من المشاعر المتناقضة التي يعيشها الإنسان في مرحلة متقدمة من العمر، مثل الحب والخوف والأمل واليأس. كما تعكس القصيدة الرغبة الإنسانية في العيش والحب حتى آخر لحظة في الحياة.
*** الحب بعد الستين ***
امرأة ترتدي نصف الصورة
في لوحات ليوناردو دافنتشي
ترتب ما بقي في بيت أناخ البحر سقفه
ليحكي للسماء
عن حميمية الماء للملح في العيون .
قبل ستين عاما كنت أتجرع الوحل
أستخرج من مرارة التراب
بقايا عشب مشرد
يستغيث من ذل السنين
ولما عرفتك بعد هذا العمر
كنت كلاتِ للعرب
مزيج من خشب وطين
يتبطن ظلي الذي فقد جسده
ينقرض في متاهات النرد
يطفو مع الدمع
كمكعبات من فلين
لا شيء أشد فتنة بالنسبة لي
من زنبقة
كانت تزين شكلي في عينيك
حين تأوينني
تسألني باستمرار إن كنت أعشقها
وقد منحتها مع كل قصيدة مخطوفة
شهادة – عزاء –
لتحاكم امرأة هاربة من قلبي المستكين
يا سيدتي
أنا ما كنت مجرما ، كي أنتحل صفة قابيل إلى الأبد
ولا مرتدا كي أستبدل أصل العزى الخشبي بديني
أنا مكشوف تحت الشمس
أعبر عبر القلب المملوء برائحة النعناع
إلى ظلك الحصين
الشاعر
محمد زغلال محمد