محمد نخال
كان يا ماكان، يا سادَتي يا كِرام، في سالِف العَصْر والأوان، ولا يَحْلُو الكلام إلا بالصّلاة والسّلام على النّبي العَدْنان، إذْ يُحْكَى والعُهْدَةُ على الرّاوِي أن مدينة ” وادِي زَمْ ” استَمدَّتْ اسْمها من أسَدٍ كان يعيش بوادٍ بالمنطقة، وإذا كانت هاته المدينة قد اسْتَمَدّتْ اسْمها من الأسَد “إزَمْ “، فإن أهلها اسْتَمدُّوا منه شَراسَتَه وبطْشَهُ في مقاومة الاحْتلال الفرنسي في ملْحَمة شبيهة بِمَلْحَمَة ” الإلْيَادَة” ل “هُومِيرُوسْ”، والذّاكرة الشّعبية لا زالتْ تحتَفِظُ بأهازيج تُؤرِّخُ لتلك الفتْرة البُطولية من حياة المدينة وأهْلها الأشَاوِس، وتنْقلُ لنا مَشاهِد حيّة تصْدَحُ بها حَناجِر النّاس في حَفَلاتهم وأعْراسٍهم في نَخْوَة مُنْقَطعة النّظير. من منا لايتَذّكَر المُطربة الشّعبية “الْغَالِيَة”، الشّيخة الثّائِرة، أيْقُونَة وادي زَم، والتّي كانتْ تَعْشَق هذه المَدينة، وتُلَقِّبُها غَيْرَةً ب”لَبْزَيْزِيلَة المَحْلَوبَة” -وقد كانتْ هذه الشِّيخَة، تقُود فِرْقَة مُوسيقية، إذا بدأتْ في العَزْف والرَّقْص، أحْسَسْتَ وكأنَّك أمام مَشْهد، يُجَسِّدُ حربَ التَّحْرير، إذْ تبْدَأ رائِعَتَها “مَّالِينْ الخَيْل”، بإيقاعٍ بطيءٍ، يُخَيَّل لسامِعِه، وكأنّها حَركات اسْتِعْراضِيَة، لفِرْقة عَسْكَريَّة، حيثُ تَبْدُو طَقْطَقاتُ “التَّعارِج”، وكأنَّها طلقاتُ رصاصٍ للمُعْتَدي، لحْظة إعْدام المُجاهِدين، وضَرباتُ “البَنادير” وكأنّها جَلْدٌ مُبرح، بالسِّياط للمُقاومين، ثم يَتَصاعد الإيقاعُ، وكأنّها حَركاتُ انْطلاقٍ لخَيلٍ جامِحَة، تَدُكُّ بحَوافِرها حَصْباء الوَادي، مُغِيرةً على الأعْداء، وكم كانت تَصُول وتَجُول بنَخْوَة في أعْراسنا، مُرَدِّدَةً بكل فَخْر واعْتِزاز، بصُوفِية وروحانية، أبْياتا من هاته الملْحَمَة الخالِدَة التي تُمَجِّدُ المدينة، وتَتَغَنَّى بعَرِيس الشُّهَداء: “بَنْ دَاوُد بن ادْريس” المَعْروف ب “دْوَيْدَة” والتي تقول في مُقدّمتها :
هَزِّيتْ عَيْني لِيكْ يَارَبِّي
هَزِّيتْ عَيْني وفْرَحْ قَلْبي
يَاكْ قالَتْ لِيكُمْ ..قُلْنا لِيكُمْ
ياكْ قالَتْ لِيكُمْ بَنْتْ المَعْطِي
غِيرْ ضُرْبُوا وَأنَا نَعْطِي
تْحَزّْمُو كُونُو رُجَّالَه
وغِيرْ ضُرْبُوا ولَّا هُرْبُوا
ماضْرَبْتُو ما قَلْتُونَا
اللِّي تْهَرَّسْ ها لَكْرَارَسْ
اللِّي تْفَرْمَى يَبْقَى تَمًى
يَاكْ قَالَتْ لِيكُمْ قُلْنا لِيكُمْ
ياكْ قالَتْ لِيكُمْ بَنْتْ القُرْشِي
رَاهْ الفَرْشِي ما يَقْتُلْ شِي
يَاكْ بَنْتْ القُرْْشِي … مْخَلْطاهْ كَرْكُوبْ وفَرْشِي
خالْتِي ” حَنْزِيزَه ” …. تتْغَوِّتْ كِيفْ لَبْزِيزَه
فِينْ أيّامَكْ يا وَادْزَمْ … حتَّى الزّْناقِي تَجْري بالدَّمْ
يَاكْ دْوَيْدَة لْوَحْدُو ….. قْتَلْ 100 عْدُو
دْوَيْدَه في لَقْنُوتْ ….. الِّلي طَلّْ إمُوتْ
لْبَسْ الْقُفْطَانْ ….. سْقَطْ الْقُبْطَانْ
لْبَسْ الْبَدْعِيَة ….. سْقَطْ وَلْدْ الرُّومِيَّة
دْوَيْدَه وَحْدُو ….. مَاخَانْشْ عَهْدُو
دْوَيْدَه وَلْدْ لَحْلَالْ ….. مَاتْ في المَحَالْ
هذا جزءٌ من ملْحَمَة تَفَاخَر بها الأجْداد، وردَّدَها الأبناء، وتَناسَاها الأحْفاد، والمُتَأمِّلُ لحال المدينة في هذه الذِّكْرى، يُصابُ بالقَرَف والغَثَيان، فهكذا طَوى تضْحِياتها النّسْيان، وأهْلها فَقَدُوا البَوْصَلة وصاروا كالمُشَرّدِين بلا أوْطان، فإن كانوا قد تمَكَّنُوا بِبَسالة من طرْد الاسْتعمار، فإنهم لم يسْتَطعوا أن يتَخَلَّصُوا من النَّعْرة القبَلية التي عشْعَشَتْ طويلا في عقولهم، فلا الخَلَف صانُوا شَرفها، وقد نَهَشُوا لحْمها، وكسّروا عظمها في صِراعات قَبَليّة بَلْهاء، وحِسابات سِياسة رَعْنَاء، ولا الأحْفاد أكْرمُوها وحافَظوا على نخْوَتِها وعِزّها، وقد مَرّغُوا وجْهها في التُّراب، وأصْبَحوا يتَصَدَّرُون عناوين الصُّحُف العالمية، كأبْرَز صائِدي الفَضائح عبر الشّبكة العنْكبُوتية، وكأنه قُدِّرَ لها أن تَنْزع وِشاحَ الجِهاد ضِدّ الاحتلال، لِتَرْتَدي عَباءَة العار والنّصْب والاحْتِيال.
فبِئْس الخَلَف لخيْر سَلَف، وما أتْعَسَها من مدينة!….