ذ رحال لحسيني
حين بدأ المنتخب المغربي لكرة القدم في شق مساره المتميز في “مونديال قطر 2022” لم يكن أحد يتوقع أن يحقق هذا “المنتخب المغمور” ، تلك الإنجازات الكروية التي أبهرت العالم وقبلهم المغاربة في البلاد وفي مختلف بقاع العالم وشعوب شمال إفريقيا و”الأمازيغ” وعموم “العرب” و”المسلمين” … وغيرهم، في كافة القارات، من المهتمين وغير المهتمين بالساحرة المستديرة، ولاعبي ومكونات المنتخب أيضا وبكل تأكيد.
1/- فريق غير متوقع يصنع الفرق غير المتوقع
قبل ثلاثة أشهر من الدورة 22 لكأس العالم كان المنتخب المغربي فريقا إفريقيا مناسبا للتوجه إلى كأس العالم من أجل المشاركة، والمشاركة فقط.
خلال المباريات الأولى انبثقت ملامح فريق بطعم خاص جيد وغير متوقع، من حيث النتائج والروح الرياضية والكتيبة المتجانسة والمتضامنة فيما بينها واللمسات المتفردة ذات المضمون الإنساني العميق التي تمتح من ملامح الشخصية الكروية المتزنة، الودودة والمتفانية في الدفاع عن “قميص الفريق” ومن خلال نحثها ونثرها لتجلي جمالي بهيج للعلاقات الأخوة الطيبة بين اللاعبين، وبين اللاعبين ومحيطهم، وعائلاتهم والجماهير الحاضرة أو التي تتابع عبر الشاشات في مختلف الأرجاء، وتجسيدها لقيم اجتماعية مغربية أصيلة تحفل بها الذاكرة الجماعية ، والتي كادت أن تندثر من الفضاء العام، حتى “خيل إلينا” أنها فُقدت تماما أو غابت من معظم الأوساط، بفعل ما يتم الترويج له من مسخ وبذاءة مريعة، ومن هجوم كاسح لقيم مبتذلة لا تضاهي “الحداثة” في مضمونها القيمي الحضاري المتزن، ولا تسمح للدفء الإنساني “الراسخ” في وجدان العموم بالصعود إلى واجهة المشهد العام.
كل هذه التجليات وغيرها، والحضور القوي والبهي للجماهير الشغوفة باللعبة وبعدها أغلب أفراد ومجموعات الشعب (المغربي) وشعوب أخرى تأثرت إيجابيا بفرحة صعود رائع جلي وغامض في نفس الآن، مما خلق إبهارا كبيرا في ظل سمو الروح الجماعية بين اللاعبين والتي حولت مهاراتهم الفردية إلى مجهود خرافي قل نظيره.
2/- “لا يمكن السباحة في نفس النهر مرتين”
الروح الجماعية التي ميزت الفريق الوطني المغربي لكرة القدم في “مونديال قطر”ربما أفلت بسبب تعاظم وقع النجومية وطنيا (على عكس أثرها دوليا) وتحول مجموعة من أعضاء الفريق إلى نجوم إشهار لفائدة ماركات وخدمات وشركات وسلع متنوعة، مقابل بروز بعض تمظهرات الفردانية التي عادت لتسطو لدى بعض العناصر وتحدث خللا متناميا في روح الفريق (المجموعة)، خصوصا في مباراته الأخيرة (امام جنوب إفريقيا) والتي أثمرت تيها ملحوظا وسط الفريق، ناهيك عن عدم نجاعة تدخلات المدرب في إحداث كوة ضوء وسط ظلام محدودية الأداء الجماعي والتي تسببت في ضياع فوز كان متاحا ومتاحا جدا.
3/- غالبا الهزيمة تأتي بنفس القدر الذي يكون فيه الانتصار ممكنا
كأن الجميع كان يعتقد ان المنتخب المغربي سيفوز بكأس إفريقيا في “الكوديفوار” هذه الدورة، حتى لو لم يقم بمجهود فعلي ودون تركيز حقيقي.
اللاعبون والمدرب ومعظم الجمهور والمعلقين حتى تناسى الجميع تقريبا، أن الفوز عمل وتخطيط ومقومات وإمكانات بشرية وليس انتظار نتيجة متوقعة، خصوصا وأنهم بغض عناصر الفريق لا توجد في رقعة الميدان، وأن عناصر غير جاهزة تجري في رقعة الملعب دون تأثير فعلي، ناهيك عن تضخم “الأنا” عند البعض الذي اعتقد أن بإمكانه التوقيع على أداء بطولي خاص دون استحضار بطولة الفريق التي ساهمت في التوهج السابق.
بعد النتائج الإيجابية والصورة الجميلة والأجواء الممتعة والنتائج المرضية جدا التي تم حصدها في قطر، تحول الفريق وخاصة نجومه ومدربه أكثر إلى ما يشبه الأيقونة أو القدوة التي يحتدا بها في العزيمة و”الصدق” (النية) والإرادة الصلبة والقدرة على تحقيق ما يبدو مستحيلا. وأصبحوا مدعاة افتخار ومدعوون مرحب بهم في عدد من المبادرات الانسانية الجميلة، رغم سعي البعض إلى تمييع هذه”التيمات” من خلال خرجات فنية أو إعلامية بقيت قاصرة على ترجمة الحمولة الراقية والحميمة لتلك القيم، وكذلك أصبحوا في صلب خطوات مدنية أو دعائية أو تجارية لا حصر لها.
غير ان مواصلة العمل التقني كرويا وتطويره للخروج من مايشبه النمطية والحفاظ على نفس الجاهزية، لم يتواصل بنفس الإيقاع والميزة، أو على الاقل لم يحقق ما كان متوقعا منه، حيث أصبح الفريق صورة راسخة يصعب النظر إليها بعيدا عما أصبحت تحتله في معظم الأذهان، كحقيقة مطلقة وتابثة.
فغاب عن الجميع (تقريبا) أن “كل حقيقة لا تحمل في طياتها بذور تجاوزها، تصبح حقيقة مظللة” فكانت الكبوة الكبيرة والخسارة القاسية.
4/- الخسارة القاسية والضرورة
إن خسارة المنتخب المغربي (مع جنوب أفريقيا) يمكن ان نستشف منها أمرين رئيسيين, أولهما انه لا يمكن أن تحقق اهدافك فقط لأنك لك مقومات تحقيقها، بل قد تسقط في شباك هذا الإعتقاد، فلا تتمكن من مواجهة المثبطات الجانبية التي قد تبدو بسيطة، لكنها ستصبح معرقلة بشكل كبير. (لا يمكن ان يتأتى الإنتصار لأن لك إمكانات الفوز),
أما الأمر الثاني فيعيدك إلى منطق الحياة، لتتأكد جيدا أنها لا تسير دائما وفق خط مستقيم، إيجابي أو حتى سلبي كالحصان الجامح، وأنها تحتاج دائما إلى الترويض.
الهزيمة قاسية والاقصاء أقسى، لكن القيم الجمالية التي جسدها “المنتخب المغربي” سابقا تبقى ممكنة ومتاحة كلما تحققت لها نفس الظروف او ظروفا مشابهة (على مستوى المضمون وليس على مستوى الشكل (والمجال؟)) علما أن كل حقبة تخضع لعوامل متعددة تؤثر في ما تسفر عنه من نتائح يمكن إعادة قراءتها (بشكل مغاير في السياق المغاير) لاستنباطما تتيحه من عبر منها في مختلف المجالات ، وليس بالضرورة أن يتم ذلك في مجال كرة القدم وفقط.
(يتبع)
30 يناير 2024
—————————
* المقولتين:
-“لا يمكن السباحة في نفس النهر مرتين”
– “كل حقيقة لا تحمل في طياتها بذور تجاوزها، تصبح حقيقة مظللة”
عن “هرقليطس” و”حسين مروة” دون الرجوع إليهما للتدقيق الحرفي في صياغتيهما.