ذ محمد نخال
شاحَتْ عنّي بوجهها العبُوس، ورفَضتْ مُصافحتي، ثم قالت وقد اعتَصَر فؤادَها الألم:
إليك عنّي يا هذا! لقد خابتْ فيكَ كل آمالي، وانْهارتْ كل قِلاع أحْلامي، من يُطفئ جَدْوَة ناري، وقد طال فيك انتِظاري، وناحَ ليلي وباحَ للنّجوم بكل أسْراري، فما عادت أقداركَ رهينةً بأقداري، واليوم، لقد قرّرتُ واتّخَدْتُ فيك قراري، سأكسِّر أغلالَ قيْدكَ، سأحَرِّر من قبْضتِكَ كل أفْكاري.
ثم سكَكتْ برهةً، وتنفسّتْ بعمق، فتَصاعَدتْ زفَراتها كبركانٍ مسْتَعر، ونظرتْ إلي نظرةً حزينة، وقبل أن تنطق، سبقَتْها عَبَراتُها متساقطة على رُبى وجنَتَيها المُوَردتين كشَلَّال مُنهمر، وبعد أن استجمعتْ أنفاسها، أشارتْ إلي مُتَوَعِّدة وقالت:
أيها الظالم، لقد طالتْ معكَ أيام الألم، وأعلم أنني في وجودكَ كالعَدَم، اشتَدّتْ في قربك أحزاني، وازْداد في بعدك حرماني، بالأمس القريب كنتُ كالوردة في الجِنان، واليوم أنا ذابلةٌ كما تراني، قَطفتني وما سَقيْتني، جفَّفتَ جُدوري وأتلفْتَ بذوري، ظنَنتُك جَدولا لعُوبا يَرويني، فكنتَ نارا بلهيبها تشْويني، أخْلفتَ الميعاد، وما قاسَيتُ معك يكفيني.
سأودِّع قلبكَ القاسي الذي سَقاني عَلْقما من كأس المآسي، واستردُّ قلبي، واسْتَرجع كل أنفاسي.
كم يَعِزُّ علي فِراقك، وقد قسَمتَ بعِنادك إحْساسي، وأنا لا ألومُكَ، وإنما أذَكِّرُك إن كنتَ ناسٍ، فلم يكنْ رضاك إلا أوْهاما، ولم يكن عشقكَ إلا أحلاما، ولم يكن هواك إلا سَرابا، ولم يكن تعَلُّقي بك إلا عذابا.
أدمنْتُ لأجلك سَهر الليالي، حتى عاتَبني السّهر، وقال مُشْفقا: لما هذا السُّهاد يا سَمراء، لما هذا النَّحيبُ في الليلة الظلماء، لقد آلمَني حالُكِ، وأنتِ على الدّوام شاردة في انتِظارٍ حالِك!
قلتُ: أنا في انتِظارِ طلّة القمَر، ولن أبرحَ مكاني عاكِفَةً حتى تُشرق شَمس نهاري، سأظل أناجي الطيْر على الأفْنان، وإن أخْلف حبيبي المَوْعدَ من ثان، فدعْني أهيمُ في بحر أشْجاني، دعني أيها السهر لحالي، فأنا أسْتحقُّ مآلي.
أيها القاسي، لن أحاسِبكَ على جَفائك وأنتَ القَريب، ولن أعاتِبك على هَجرك وأنتَ البعيد، ولن أبكِ على أطلال حُبّك وأنت العَنيد، فمن يومكَ هذا لن تَراني.
سأجعَل النّدم ينْخَر مَشاعرك لأنك لم تُنْصِفني، وقد كنتُ زائرة مُقيمة على أعْتاب هَواك.
سأجعل الهمَّ يكتسح مُحياك لأنك لم تسْعفني، وقد كنتُ رابِضة على مَشارف عِشقك أتمَنّى رِضاك. قابَلتَني بالحِرمان وقد كنتُ مُعْتكِفة في مِحْراب فُؤادك أرَدِّد تَراتيل الهُيام.
بادلتَني بالإهمال وقد أخْلصتُ في هَواك على الدّوام.
واليوم أيها الجاحِد، كم يكْفيني فيك من الدموع، وقد جفَّفْت مَدامعي، وكم يكفيني من الصبر وأنا في مَواعدي أنتظرك كالبَلهاء، وكم يكفيني فيك من الأسَى، وقد ضاعتْ أيام عمري البئيسة، وأنا أتبَعك كالحمقاء.
انتظرتُ طويلا جُود رضاك، حتى ذبلت جُفوني، اشتقتُ إليك حتى نحفتْ ذاتي وتفكَّكتْ أوصالي، وزاد جنوني.
بربِّك حتى ولو تناسيْتُ هذا الهَوان وهان، كيف أسترجع منك أيامي الضّائعة، وحتى لو سامَحتك، كيف يعُود لروحي معك الإطمئنان، فلا تلعبْ دور الضّحية وقد كنت الجّزار، دبحْتَ مَشاعري، ومزّقتَ أوصال كبدي، وأتقنتَ دورك بإتقان.
يا عابِثا بمشاعري، إن للصّبر حُدود، ويامُسْتهثرا في هواي إن دوام الحال من المُحال، واعلم بأن الأيام ستَدور، لأراكَ تشْحَثُ تحتَ نوافذ فؤادي، وسَتأتي بك الظروف، لأراكَ مُتَسكِّعا تحت سَقف روحي، فلن أرحَمك ياغادِرا، حتى ولو روَتْ دمُوعك الأنهار، ولن أسامحك، حتى ولو جادتْ جفونك بالسَّواقي.
لقد قاسَيتُ في قربك، وقالوا قربُ الحبيب دواءٌ، وما كنت غير الدّاء، وعانيتُ في بعدك، وما أشفقت لآهاتي، وما كنتَ الرّجاء.
أيها القاسي، سقيْتني وأنا الظمآنة من كأس الهِجران، وأيام بعدكَ لم تكن غير سُهْد وحرمان، تمنيتُ جنّة قُربك، ومانلتُ مُرادي، وما أدخَلتني نَعيم الأمان.
ارتجَلتُ فيكَ كل بُحور الشّعر، وما أسْعفَتني القوافي، مدحتكَ، غازلتُك، وماهَجَوتك وأنا معكَ في حالة التّنافي، جعلتُ منك سَنَدي، فما سانَدتني، وما كنتَ عَضُضا لأكتافي، فبماذا يفيدني اليوم كل هذا الشّجن، وما كنتَ يوما لقَلبي السّكن، ولو عاد بي الزّمن إلى الوراء، ما شَقيتُ فيك كل هذا الشّقاء، ولما ابْتُليتُ فيك كل هذه البلاء.
فهذا فراقٌ بيني وبينكَ، والأيام بيننا….