عبد اللطيف شعباني
إن القيم هي الخلفية الروحية التي تسم مجتمعنا عن باقي المجتمعات، ويتم تجسيدها الفعلي أساسا في مؤسسات التنشئة الاجتماعية؛سواء في شكلها المؤسساتي:(الأسرة، المدارس، الجمعيات، النوادي، المراكز، الجامعات)، أو في شكلها اللامؤسساتي:(الثقافة السائدة في المجتمع، والتقاليد، والعادات).
ويعتبر الاهتمام بالقيم الإنسانية معيارا رئيسا من بين المعايير التي يقوم عليها المجتمع، ور كيزة أساسا من بين الركائز المشكلة له، وهي من أولى الأولويات فيه، كما تشكل قوة دافعة ودعامة أساسا لتكوين شخصية الفرد، ومرآة عاكسة لأحاسيسه وأفكاره وتصوراته، فيقبل ما يوافقها ويلغي ما يعارضها، وهي ضرورة تربوية حضارية،
و هي دافع مهم للتنمية داخل المجتمع، ذلك أنها تقوم على توحيد المجتمع وتحقيق التوازن بين أفراده، والتماسك بينهم.
من هنا فكلمة “قيم” ومشتقاتها تستعمل استعمالا يشوبه الخلط والارتباك، كما هو جلي في الثقافة المعاصرة، ليس في علم الاقتصادوالفلسفة فحسب ، إنما وبشكل خاص، في العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، الشيء الذي جعل معناها نسبيا واستعمالها محصورا في حقول محددة.
إن القيم كما يقول عبد الكريم غريب وآخرون: “مجموعة المبادئ والقواعد والمثل العليا، التي يؤمن بها الناس ويتفقون عليها فيما بينهم، ويتخذون منها ميزانا يزنون به أعمالهم ويحكمون بها على تصرفاتهم المادية والمعنوية”.
كما “تعبر القيم عن المفاهيم والمعاني التي يولد الإنسان عليها ولادة ربانية”.
وأشار عبد الهادي مفتاح مفندا رأي عبد الكريم غريب إلى أن المتأمل في “الخطابات الفكرية المعاصرة، قد يلاحظ المكانة المركزية التي أضحت تحتلها القيم، باعتبار ها الألغوريتم المتحكم في مختلف التصرفات الفردية والاجتماعية”.
وفي الاتجاه المعاكس نرى أن محمد بلفقيه يتخذ مسارا مخالفا
لسابقيه في تعريفه للقيمة، معتبرا إياها”أحد المفاهيم التي تتباين في معانيها الآراء، وتتعدد في مباحثها الاجتهادات (…). والتباين في النظر إلى المفهوم معنى، ومبنى، وخصائص، وتصنيفا يزكيه اختلاف المداخل المنهاجية التي جعلته ـ أو تجعله ـ في القلب من اهتماماتها المعرفية، والمدخل الديني، والمدخل الفلسفي، والمدخل الاجتماعي، والمدخل النفسي، والمدخل الواقعي، ليست سوى بعض هذه المداخل…”.
و من ثم “لا تبدو القيم الاجتماعية كقيم موضوعية، بل كقيم ذاتية عامة، أو لنقل كقيم ذاتية مشتركة. وباختصار فإن القيمة تتحرك بتحرك السياق الذي تظهرفيه.
فماهي تأثيرات القيم عاى الشباب؟؟
يعرف الشباب في مجتمعاتنا العربية تحولات مريبة على مستوى منظومة القيم، إذ أصبح التماهي مع كل وافد من القيم، ولو كانت تلك القيم متعارضة مع قيمه ومرجعيته الثقافية، ومحاولة استدماجها ثم ترجمتها من خلال سلوكيات وتمظهرات تتجسد في اللباس وتصفيف الشعر وأنواع الاهتمامات… كل ذلك يعبر بوضوح عن التوجه نحو الاغتراب عن واقعه ومحيطه الاجتماعي، مما يثير عدة تساؤلات عن الأسباب الموضوعية لهذه المسارعة إلى التمرد على أطره المرجعية المتمثلة في الأسرة والمجتمع والأعراف والقيم السائدة فيهما والمستمدة من مضامين ثقافته وهويته، إنها إشكالية حقيقية. ولمقاربة هذه الإشكالية سأحاول رصد أسباب الظاهرة من خلال المحاور التالية:
– أزمة الشباب من أزمة القيم.
– سيكولوجية الشباب.
– ضمور دور المؤسسات التربوية في مجال نقل القيم.
إذا كانت أزمة القيم الضاربة في عمق الحياة العامة بجميع مجالاتها، مما يكاد يجمع عليه كل المتتبعين من الاجتماعيين والاقتصاديين وحتى السياسيين، وأنها أصبحت ظاهرة طالت انعكاساتها كل الناس ومن مختلف الأعمار وفي مقدمتهم الشباب؛ فإننا لا نستغرب أن يفشو في أوساطهم الإدبار عن قيمهم الأصيلة التي تعمل على تثبيت شخصيتهم وترسيخ مقومات هويتهم، والإقبال المنقطع النظير على تمثل القيم الساقطة في السلوك، سواء كانت محلية أو وافدة.
إن الشباب قبل أن يصلوا إلى هذه المرحلة كانوا أطفالا، نشأوا في أحضان الأسرة والمدرسة وبينهما تنقلوا في فضاءات المجتمع، ولاحظوا عن قرب سلوكيات الآباء والأساتذة.
من قبيل القيم الاستهلاكية لدرجة أصبح معها الشباب لا يفكرون إلا في إشباع حاجاتهم المادية، ونسوا أن القيم ليست كلها من جنس ما يتصل بالاستهلاك، وإشباع الغرائز وحدها، وإنما القيم منظومة نسقية متكاملة، تضم مجموعة من المبادئ والقواعد والأعراف التي تحكم السلوك بين مكونات المجتمع، وهي بمثابة المعيار الرئيس في صياغة وتوجيه التصرفات على نحو يخدم تقدم المجتمع في جميع مجالات الحياة، وإذا اختل النظام القيمي واهتز، فإن الإنسان يفقد توازنه النفسي والاجتماعي، ويصبح كالريشة في مهب الريح، مائعا/تابعا، ليس له قرار شخصي.
ويصدق عليه قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا” كل ذلك نتيجة ما أصاب منظومة القيم وعقدها من انفراط وتشتت وتناقض، فانعكس ذلك بالضرورة –سلبا- على الناس عامة، وعلى فئة الشباب خاصة.
حيث وجدوا في واقعهم قيما مادية متدنية اعتاد الناس التعامل بها مثل: الرغبة في الثراء السريع أو الكسب غير المشروع، أو الرشوة والمحسوبية، رغم كونها قيما فاسدة إلا أنها ما دامت تلبي الحاجة الملحة للأفراد التي يفرضها الواقع الاجتماعي؛ فإنهم يقبلون على التعامل بها وممارستها، ومع طول الزمن وبحكم الألفة تصبح تلك القيم واقعا مألوفا، وهكذا تنتشر القيم الفاسدة وتحل محل القيم الصالحة للإنسانية كلها، والتي تحقق لها السعادة في الدنيا والآخرة.
يساعد الشباب على الانخراط في هذه التحولات القيمية عوامل سيكولوجية تطبع المرحلة التي يمرون بها، تلك المرحلة الانتقالية التي تحمل في طياتها القديم الذي خرجوا من رحمه، والجديد الذي يتجهون إليه، ولكل من الاثنين (القديم والجديد) خصائصه التي تميزه والتي قد تصل إلى درجة التعارض الذي قد يأخذ بدوره طابعا حادا إن لم يجد توجيها حكيما وراشدا، وأبرز خاصية يتميز بها الشباب هي الطموح الجامح، والتطلع إلى مستقبل ذي أفق واسع الرغبات، لا تحده حدود، وهذا من شأنه –مع الفراغ القيمي– أن يحدث اهتزازا في النفس واضطرابا في السلوك.
وإذا كانت مرحلة الشباب هذه تفتقر إلى الاتزان والاستقرار، وتنطبع بالاندفاع والحماس الزائد، فإن الشباب –إذا أبقي على التناقضات بين القيم والممارسة في الواقع– ستتعمق الهوة بينه وبين قيمه الدينية والوطنية، وسيصبح على كامل الاستعداد للانقياد لكل السلوكيات التي تقع تحت الحواس، لدرجة التماهي وذوبان الشخصية، والانسلاخ من الجلد ولعل من الأسباب المباشرة في إفراز الظاهرة ضمور دور المؤسسات التربوي (الأسرة والمدرسة والمجتمع…).
إن الشباب قبل أن يصلوا إلى هذه المرحلة كانوا أطفالا، نشأوا في أحضان الأسرة والمدرسة وبينهما تنقلوا في فضاءات المجتمع، ولاحظوا عن قرب سلوكيات الآباء والأساتذة، وتشربوا من معين الأسرة والمدرسة والمجتمع قيما توجه سلوكهم وتحدد معالمه، ويصدرون عنها في مواقف الحياة الخاصة والعامة على قاعدة “الإناء يرشح بما فيه”.
وجد الشباب في واقعهم قيما مادية متدنية اعتاد الناس التعامل بها مثل: الرغبة في الثراء السريع أو الكسب غير المشروع، أو الرشوة والمحسوبية.
وبالتالي فهؤلاء الشباب من مخرجات هذه المؤسسات التي تقلل من أهمية قيم الحوار والتعبير عن الرأي والاختلاف واحترام الرأي المخالف، ولا تعمل على تجسيدها بالحرص على التطابق بين مضمون القيم والسلوك الفعلي للمربي، حتى تتعمق تلك القيم في نفوس النشء ويترجمها إلى سلوك يومي؛ لأن مصدر الأزمة “أزمة القيم” هو التعارض بين القيم المتصلة بالحياة والموجهة للسلوك، وبين الممارسات على أرض الواقع..
لابد لنا أن نفرق بين معنى أزمة القيم في الدوائر الثقافية المتعددة، فأزمة القيم في الغرب تعني أن الشباب لم يعد يعرف ما الذي يعنيه بكلمة القيم، خاصة بعد سيادة ثقافة النّهايات، نهاية الإلزام الديني ثم نهاية الإلزام العقلي، فأزمة القيم إذن هنا تعني أن الغرب يعيش زمن تلاشي المرجعيات وسيولة المعايير، أزمة القيم في صميمها تعني الفراغ الأخلاقي وفقدان الأسس، وفي هذا السياق يقول أحد فلاسفة الأخلاق المعاصرين بأن الشباب يعيش في حقبة، باتت فيها القيم الأخلاقية تثير أسئلة صعبة، ويشهد أيضا تحولات اجتماعية وثقافية كبيرة، تُغرقه في اللاّيقين، ولذلك يجب علينا رفع هذه التحدّيات ومواجهة المشكلات الخفية للشباب ، ومع هذا كلّه فإنّه لا يلوح لنا من أجل تحقيق ذلك ، أي رفع التحديات ومواجهة المشكلات للشباب أنّ بحوزتنا نظاما في القيم الأخلاقية صَلبا ومتناسقا .
أمام التأثير الخطير والكبير لوسائل ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى، ومنها خاصة وسائل الاتصال والإعلام الحديثة والأسرة التي تعرف اختلالات كبيرة،نظرا لأزماتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية،مما جعلها تستقيل بشكل شبه كلي من لعب أدوارها التربوية الإيجابية وكذا “ثقافة الشارع ” ،حيث صار الشارع “الأسرة” والمدرسة” الجديدين، والذي أصبح الشباب يقضون جل أوقاتهم فيه بعيدا عن رقابة الأسرة والمدرسة معا .
وعليه، أظن أن مسألة أزمة القيم لدى الشباب هي مسألة معقدة ومركبة،وتتطلب معالجة مجتمعية شمولية(تربوية، ثقافية، اجتماعية، اقتصادية ،سياسية، إعلامية…)، وهي مسؤولية كل وسائل ومؤسسات التنشئة الاجتماعية،من مدرسة وأسرة ووسائل الإعلام والاتصال.