دور المجتمع المدني المغربي في دستور 2011

بوزيدي حسن *

مقدمة :

شكل موضوع المجتمع المدني سواء نظريا أو عمليا موضوعا ذات أهمية كبرى للسياسيين والباحثتين وذلك باعتبار أن المجتمع المدني أداة قوية للاختراق والضغط والوصول إلى المعادلات الاجتماعية الصعبة من هذا الطرف أو ذاك ،وإذا كان المجتمع المدني في الفكر و الممارسة الأمريكية قد اختلف تأسيسه و تطوره عن ما جرى في الفكر و الممارسة الأوربية ،وذلك بسبب انبثاق المجتمع المدني قبل انبثاق الدولة القومية الأمريكية ،فإن تطور مفهوم مؤسسات المجتمع المدني في بلادنا بصفة خاصة وفي البلدان العربية بصفة عامة ،مازال في مخاض عسير تتقاذفه المصالح والتكتيكات السياسية والصراع الطبقي و الفئوي ،والإيديولوجي ،وبغض النظر عن التعاريف التي أعطيت لهذا المفهوم حسب اختلاف المذاهب الفكرية والإيديولوجيات ،فإننا نقدم من جهتنا تعريف نؤسس من خلاله تحليل مقالتنا العلمية هذه ،فالمجتمع المدني يمثل “مجموعة من الأفراد والمنظمات والهيئات التطوعية المؤسسية التي تقوم على قاعدة التعاقد ، والمستقلة عــن سلطة الحكومة ،و التي يتبنى أعضاؤها أهدافا مشتركة يحققونها عن طريق العمل الجماعي في مجالات مختلفة اقتصادية وثقافية ودينية وفنية واجتماعية وإنسانية وغيرها بالاعتماد على أنفسهم دون الاعتماد الكلي على الدولة إلى الحد الذي تصبح فيه تلك المنظمات والهيئات والجمعيات بمثابة قوى اجتماعية لا تنفصل عن الدولة ولكنها بمثابة عين عليها، وتسير هذه المؤسسات على أهم مبادئ الديمقراطية ” .
وقد ازداد اهتمام النظام السياسي المغربي بمؤسسات المجتمع لعدة أسباب ومعطيات داخلية وخارجية خصوصا مع انفراج السياسي ،والانفتاح على حكومة التناوب وتأسيس مؤسسات لحقوق الإنسان رسمية ابتدءا بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان،وديوان المظالم ،وترسخ هذا التوجه مع اطلاق مفهوم الجديد للسلطة المنبني على محاولة إعطاء الأولوية للتنمية البشرية والاقتصادية ليتأكد هذا المنحى مع تصاعد الحراك الاجتماعي العربي الإقليمي والوطني الداعي إلى تحقيق الديمقراطية و إسقاط الفساد.
لقد جاء الدستور المغربي لسنة 2011 ليشرعن كما سبق ،وأن ذكرناه بتمكين المواطن المغربي من المشاركة في صناعة القرار العمومي عبر مجموعة من الاليات و المكانزمات ،لقد سعت الدولة بكل هذه الإجراءات إلى التنازل عن بعض اختصاصاتها أو على الأقل إشراك الفاعلين المدنيين في بعض المجالات، وهذا يأتي في سياق عالمي لتراجع الديمقراطية التمثيلية نتيجة لتزايد عيوبها ،وبروز الديمقراطية التشاركية ،المبنية على الإشراك اليومي للمواطنين في تدبير شؤونهم والحق في الحصول على المعلومة، والتوزيع العادل للمرافق العمومية على عموم التراب الوطني ،والمساواة في تقلد المناصب العمومية، والشفافية والمحاسبة وحكم القانون والنزاهة وخدمة المصلحة العامة، والمساواة بين المواطنين في الاستفادة من خدمات المرافق العمومية.
انطلاق من كل ما سبق فإن التساؤل المطروح و التي سنحاول الإجابة عليها هو عن أهم الآليات التي من خلالها أتاح دستور 2011 للمجتمع المدني المشاركة في صناعة القرار العمومي، وذلك من خلال المطلبين التاليين :

المطلب الأول : دور مؤسسات المجتمع المدني في صناعة القرار العمومي
المطلب الثاني : دور المواطن ” الفرد ” في صناعة القرار العمومي

المطلب الأول : دور مؤسسات المجتمع المدني في صناعة القرار العمومي

ميز دستور 2011 بين كل من دور المجتمع المدني كمؤسسات و هيئات منظمة و معترف بها ،و دور المواطن الفرد في المشاركة في صناعة القرار العمومي، وهو ما دفعنا إلى التمييز في مقالتنا بين هذين الدورين ،لكن قبل الدخول في صميم الموضوع لابد من تقديم تعريف لمفهوم صناعة القرار العمومي .
في محاولة لتحديد ماهية القرار يقدم كل من ” بيرتراند بادي ” و “جاك فيستلي ” تعريفا للقرار، وهو التالي: «إنه اختيار واع اتخذه الفاعل (فرد أو مجموعة) من بين مجموعة من الاختيارات التي تعرض أمامه بشكل علني بهدف حل مشكلة ظهرت أثناء المناقشة». وعرف “جون لووينهارد ” القرار بأنه «يمثل طورا من الإجراءات التي تحول المشاكل إلى سياسة». فعلى مستوى علم السياسة، يظهر الاهتمام الحديث بموضوع القرار منطلقا من مفاهيم أساسية، أهمها: الإرادة العامة ،النشاط العام ،حيث يقدم فقهاء القانون الدستوري مقاربة قانونية مؤسساتية لعملية صناعة القرار التي ارتبطت لفترة طويلة بالمؤسسات الدولة .
إن المقترب القانوني المعتمد بشكل أساسي على الدستور والنصوص التنظيمية في مجال تحليل طرق اتخاذ القرار العام داخل الأنظمة السياسية المعاصرة ،وإن كان تحليلا يبدو متماسكا من الناحية الشكلية ،فإنه مع ذلك يبقى مقتربا مبسطا بالنظر إلى التعقيد الذي أصبح السمة الأساسية للظاهرة القرارية لأن واقع الحياة السياسية والعلاقات بين الفاعلين السياسيين والمؤسسات أصبحت معقدة جدا تجاوزت المقاربة ،ومن ذلك التراجع الملحوظ في قدرة المنتخبين ، بالمعنى الواسع للكلمة ،على المراقبة الفعلية لمجموع التفاوضات التي أصبحت تتم حول السياسات العامة لفائدة الموظفين السامين للدولة وتنامي عدد من الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية وزيادة دورها في التأثير على مجريات الصيرورة القرارية ، ولتحليل هذا المطلب قمنا يتقسيمه إلى ثلاثة فقرات

الفقرة الأولى : دور المجتمع المدني في اتخاذ القرار العمومي
الفقرة الثانية : مشاركة المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية
الفقرة الثالثة : مشاركة المجتمع المدني في تقييم القرارات العمومية

الفقرة الأولى : دور المجتمع المدني في اتخاذ القرار العمومي

أكد دستور 2011 في ديباجته – التي أضحت جزءا من الدستور – على مواصلة المملكة المغربية مسيرة توطيد و تقوية مؤسسات الدولة الحديثة ،مرتكزاتها المشاركة والتعددية و الحكامة الجيدة وإرساء مجتمع متضامن ،و في محاولته لتفسير هذه المبادئ و المرتكزات ،نصت الفقرة الثانية من الفصل السادس على أن “تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحريات المواطنين و المواطنات ،و المساواة بينهم ،و من مشاركتهم في الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية “[1] ،هذه المشاركة قد تؤطرها الأحزاب كما قد تسهر عليها الهيئات المدنية ،أما الفصل الثامن من الدستور الجديد فقد أعطى شرعية دستورية للمفاوضات الجماعية ،كما أناط بالهيئات النقابية للأجراء ،و المهنيين ،والمشغلين ،مهمة الدفاع عن الحقوق والمصالح الاقتصادية و الاجتماعية للفئات التي تمثلها[2] ،مما يوحي بشكل واضح على إشراك هذه الهيئات في عملية اتخاذ القرارات السياسية في مجال الشغل ،بل إن هذه الهيئات لها تمثيلية مباشرة داخل مجلس المستشارين مما يمكنها من المشاركة في التشريع ،حيث نصت الفقرة الثانية من الفصل الثالث و الستون من الدستور على أن يخصص “خمسان من أعضاء المجلس تنتخبهم في كل جهة ،هيئات ناخبة تتألف من المنتخبين في الغرف المهنية ،و في المنظمات المهنية للمشغلين ….،و هيئة ناخبة مكونة من ممثلي المأجورين ” ،و إذا كان الأمر شبه واضح لمن و كيف و متى يمكن للهيئات النقابية أن تشارك في اتخاذ القرارات العمومية ،فإن الإشكال يبقى مطروحا و بشكل قوي و واضح
بالنسبة لباقي هيئات المجتمع المدني ،حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية عشر من الدستور الجديد بشكل مباشر و واضح على “أن تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام ،و المنظمات غير الحكومية في إطار الديمقراطية التشاركية في إعداد القرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة و السلطات العمومية” ،كما أن المادة الثالثة عشر أكدت على أن “تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور ، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية” ،و هو تقريبا نفس منطوق الفصل مائة وتسعة وثلاثون من الباب التاسع المخصص للجهات للجماعات الترابية ؛لكن تفعيل هذه المشاركة تبقى غير واضحة وغير محددة و تبقى مرهونة بصدور قانون تنظيمي الذي عليه أن يجيب على مجموعة من الإشكاليات ،كما نص الدستور بشكل غير مباشر في مجموعة من فصوله على ضرورة إشراك المجتمع المدني في مسلسل اتخاذ القرار العمومي ،فالفصل السادس و العشرون أكد على دور الدولة في تدعيم تنمية الإبداع الثقافي و الفني ،والبحث العلمي و التقني و النهوض بالرياضة…،و هو نفس التوجه الذي أكد عليه الفصل الثاني و الثلاثون في ضرورة اتخاذ السلطات العمومية تدابير توسيع مشاركة الشباب في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية ، والثقافية و السياسية ،كذلك مساعدتهم على الاندماج في الحياة النشيطة و الجمعوية ، و تيسر ولوجهم للثقافة ،و العلم ،و التكنولوجية كما أن الفصل الرابع و الثلاثون نص على قيام الدولة بوضع و تفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة[3] ،هذه الأنشطة تبقى من اختصاص المجتمع المدني باعتبار التجربة التي ركامها في هذه الميادين .
إن الهدف الذي يؤسس له الدستور الجديد يتجاوز منطق الإنصات ،و الحوار إلى المشاركة الفعلية في عملية إعداد و اتخاذ القرار العمومي ،و أخد بعين الاعتبار الحلول المقترحة من طرف هيئات المجتمع المدني[4] ،كما أن مأسسة إطارات مستديمة للحوار ،و للتفاوض و إشراك هيئات المجتمع المدني في اتخاذ القرار العمومي ،تعتبر عوامل حاسمة في التقليل من فرص اللجوء إلى مختلف الأشكال الاحتجاجية ؛و يعتبر إنشاء لجنة الحوار الوطني حول الأدوار الدستورية الجديدة للمجتمع المدني مرحلة مهمة و أولية لإيجاد حلول المقبولة والمتوافق عليها والتي لمجموعة من القضايا المطروحة من أبرزها مقدار السلطة سيسمح للمجتمع المدني أن يشارك بها[5] ،خصوصا و أن طبيعة النظام المغربي يتميز بوجود ما يطلق عليه بالدولة ” العميقة ” التي تعمل على رسم السياسات الإستراتجية الكبرى للبلد في خفاء مقابل جهاز حكومي وبرلماني يسمح له بجزء محدود من السلطة كما أن تحديد القطاعات التي يمكن للمجتمع المدني أن يشارك في اتخاذ قراراتها أمر ضروري نظرا لاستحالة مشاركته في بعض القطاعات (الأمن و الديبلوماسية…) ،كما أن من سيشارك و يمثل المجتمع المدني في عملية اتخاذ القرار العمومي و يتفاوض باسم المواطنين تطرح إشكالا قويا ،نظرا للتكاثر الكبير الذي عرفه الحقل الجمعوي ببلادنا ، و أيضا للتضارب مصالحه و إيديولوجياته ،و بالتالي فالمطلوب هو إيجاد صيغة ديمقراطيةو شفافة لتمثيل أغلب التوجهات و الطبقات داخل آليات اتخاذ القرار العمومي .
كما أن تنوع أشكال و أنماط المشاركة في صناعة القرار العمومي مسألة يجب الحسم فيها لكي تكون هذه الأنماط موحدة وطنيا و متوافق عليها من طرف كل الفاعلين ،فهل يتم الاكتفاء بتقديم العرائض و الملتمسات و إنشاء هيئات مشتركة للتشاور المنصوص عليهم في الدستور أم يتم تبني وسائل أخرى (وسيلة اللجان الاستشارية ،الاجتماعات العمومية ،تقنية المبادرة الذاتية…)؟[6] .
إن القانون التنظيمي الخاص بتنزيل الفصول المتعلقة بإشراك المجتمع المدني في اتخاذ القرار العمومي يجب أن يراعي الإطار الاجتماعي المغربي المتسم بعدم المساواة بين الرجل و المرأة[7] ،و بالتالي تحقيق مبدأ المناصفة المنصوص عليه في الفصل التاسع عشر من الدستور ،كما يجب الأخذ بعين الاعتبار المعطى الثقافي المتميز بنسبة أمية كبيرة ، و تفاوت اقتصادي بين طبقات المجتمع ،مما سيؤثر على نسبة و طريقة إشراك كل فئات المجتمع في عملية اتخاذ القرار العمومي مما يتطلب تقديم بعض التحفيزات المادية و اللوجستكية ،والمعنوية لتحفيز عملية المشاركة[8] ،وهنا تتضح أهمية سهولة الولوج إلى المعلومة المنصوص عليها في الفصل السابع و العشرون من دستور 2011 م .
كما تطرح قضية إشراك المغاربة القاطنين بالخارج صعوبات واقعية يجب إيجاد لها حلا ،خصوصا مع تأكيد الفصل الثامن عشر من الدستور على تحمل السلطات العمومية مسؤولية ضمان أوسع مشاركة ممكنة للمغاربة المقيمين بالخارج في المؤسسات الاستشارية ،و هيئات الحكامة الجيدة التي يحدثها الدستور أو القانون ،و لنا في تجربة مجلس الجالية المغربية بالخارج المنصوص عليه في المادة مائة و ثلاثة و ستون الإطار المرجعي لذلك ،كما أن مشاركة الأجانب المقيمين بصفة قانونية و دائمة يجب أن يضمن لهم الحق في المشاركة في اتخاذ القرار العمومي خصوصا بعد أن خول لهم الدستور في الفصل الثلاثون إمكانية المشاركة في الانتخابات المحلية ،لكن يبقى الأهم من كل هذا إيجاد الضمانات السياسية و القانونية القادرة على الضمان الفعلي لمشاركة هيئات المجتمع في عملية اتخاذ القرارات العمومية .
إن إشراك المجتمع المدني في عملية اتخاذ القرار العمومي ليس فقط هو رفض للاختيارات ،والبدائل السلطوية ،و لكن هو بصفة أولى تحديد حقيقي للاختيارات و بحث صائب و متوازن للتوجهات ،فنكون بهذا قد انتقلنا من المواطن المستفيد إلى المواطن الفاعل ،وهنا لابد من التأكيد على إمكانية الاستفادة من التجارب المقارنة[9] ،التي وضعت و مكنت المجتمع المدني من المشاركة في اتخاذ القرارات العمومية ،ففي بريطانيا ومند عام 2000 م تم إصدار مجموعة من الوثائق و مبادئ للعمل تنظم كيفية التشاور و تحدد إعداد القرارات ،و التمويلات و غيرها[10] .
إن من شأن إشراك المجتمع المدني في إعداد و اتخاذ القرار العمومي دعم الشفافية و محاربة إستباقية لكل أشكال المحسوبية و الرشوة و إتباع قواعد فنية و إدارية واضحة ،و الدفع بالديمقراطية إلى الأمام و خلق قيادات وطنية جديدة يتم الاستعانة بها عند الضرورة بل و يعزز الثقة بين المواطنين و الفاعل الإداري و السياسي ،لكن هذا لا يجب أن يؤدي إلى صدام و شك بينهما ،و يؤدي إلى صرعا بين الديمقراطية التمثيلية و الديمقراطية التشاركية ،لأن إدخال هيئات مدنية في لجن تقريرية أو استشارية لاتخاذ القرارات العمومية من شأنه جعل الدولة تنظر لهؤلاء بمثابة نواب رسميين للمواطنين ،مما قد يدفع أيضا هذه الهيئات للانسلاخ عن مرجعياتها و قواعدها الشعبية ،و بالتالي يؤدي إنشاء هيئات مشتركة للتشاور إلى بيروقراطية إضافية معقدة تهتم فقط باستمراريتها أكثر من حرصها على أداء عملها في التنمية .
كما أن اتخاذ القرار داخل هذه الهيئات قد يحتاج إلى وقت أكبر ،و نفقات أكثر ،لأن قد تدافع هيئات المجتمع المدني على إضافات تفصيلية لمشروع أو سياسة ما تفوق المنفعة العامة ،مما يجعلنا نتخوف من انجرار هذه الهيئات للدفاع عن فئوية المصالح و التخلي عن المصلحة العامة كأولوية كبرى .
إن تطور المقاربة التشاركية في عملية اتخاذ القرار العمومي لن يتم إلا باتساع هامش الحرية و الديمقراطية و الشفافية و المحاسبة ،و بالتالي فإن النصف الآخر من الدستور هو الكفيل بوضع مكانة المجتمع المدني في اتخاذ القرار العمومي في سكته الصحيحة و القوية ،مما يجعلنا نتساءل عن مدى امكانية مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في اتخاذ القرار العمومي ،وهو ما سنحاول التسليط الضوء عليه في الفقرة الثانية .

الفقرة الثانية : مشاركة المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية

إن اشراك المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية يدل دلالة واضحة على تناقص القدرة التوزيعية للدولة ،فالنظريات الداعية إلى إعادة النظر في دور الدولة ينتج عنه لا محالة تقسيم الضمني للعمل مما يجعل المجتمع المدني المتخصص في المجال التنموي والثقافي ،و الاجتماعي يتوفر على فرص مهمة لتقوية مركزه في السهر على تنفيذ القرارات العمومية في كثير من المجالات ،و الدستور الجديد لم يكتفي فقط بالتأكيد على ضرورة اشراك المجتمع المدني في عملية اتخاذ القرار العمومي ،و لكن أيضا اشراكه في تنفيذها[11] و تعتبر هذه المرحلة في عملية صناعة القرار العمومي أبرز المراحل و أقواها الذي أثبت و يثبت فيها المجتمع المدني حضوره و قوته العملية باعتبار التجارب التي ركامها و أيضا لاقترابه من فئات المجتمع ،كما أثبت حسن التعامل مع قضايا التنمية الأكثر صعوبة ،فإدخال المجتمع المدني في عملية تنفيذ القرارات العمومية يلزم الجميع بعملية التنمية في مختلف مجالاتها و ذلك لحل مجموعة من مصادر التوتر الاجتماعي ،و تحقيق عدالة توزيعية[12].
و بالانتظار القانون التنظيمي الذي سيرسم خارطة الطريق لمشاركة المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية ،هناك مجموعة من القضايا و النقط التي ينبغي للحوار الوطني للأدوار الدستورية الجديدة للمجتمع المدني أن يأخذها بعين الاعتبار من أجل تفعيل جيد لهذه الأدوار ،فعملية تنفيذ القرارات العمومية يستلزم إطارا مؤسساتيا لتيسير الأداء ، لأن التنفيذ الجيد يتطلب أجهزة مشتركة ذات مسؤولية محددة فخلق أجهزة الاتصال و التنفيذ يساعد على ضمان الانتقال من اعداد ،و اتخاذ القرار العمومي إلى تنفيذ ،كما أن التجربة أثبتت ضرورة تعيين كبار الموظفين من أجل السهر على تنفيذ القرارات العمومية المشتركة لأن من شأن ذلك إسراع و حسن تنفيذها[13] ،و هنا يمكن الاستئناس بطريقة عمل اللجان المركزية و الاقليمية و المحلية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية حيث يمل المجتمع المدني داخل هذه اللجان ،كما يعتبر هو المسئول الاول على تنفيذ المشاريع المتفق عليها باعتباره هو صاحب المشروع ،مما يتطلب من جهة أخرى انتظام الفاعلين المدنيين في شبكات جمعوية متكاملة [14] .
كما أن اشراك هيئات المجتمع المدني في عملية تنفيذ القرارات العمومية قد تكون مباشرة في الميادين التي يمتلك فيها هذا الاخير الخبرة و التجربة والقدرة على التنفيذ (محاربة الأمية ،التنمية الاقتصادية …) ،وقد تكون المشاركة مواكبة وموازية للبرامج القطاعية التي يصعب على المجتمع المدني أن ينفذها (الدبلوماسية ،حفظ الامن،القطاع العسكري… ) ،كما أن مشاركة المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية قد يتم عن طريق عملية الإسناد ،حيث تسند الحكومة أو احدى مؤسساتها جزء من أنشطتها لهيئات المجتمع المدني لتفنيدها و تسييرها أو عن طريق عملية التحويل ،و ذلك بتحويل مؤسسات الدولة لبعض أنشطتها لتنفيذها للجمعيات وفقا لاختصاصها ،أو عن طريق شراكة ين القطاع العام و الخاص[15] ،أيضا تتمثل عملية التنفيذ في التبرع الذاتي سواء بالرأسمال أو عمل مجاني ،و هذا كله من شأنه أن يخفف عبئ المسؤولية و الانتقاد للأجهزة الدولة .
إن الدستور الجديد يتوخى بشكل أو بأخر من خلال اشراك المجتمع المدني في تفيد القرارات العمومية إلى تغيير بنية و ثقافة هذا الاخير ،و دفعه إلى إحداث حركية جديدة بداخله ،و بالتالي يصبح قادرا على الانتاج و الاستمرارية على الفعل التنموي في مختلف المجالات ،ذلك أن هذه الاستدامة و الاستمرارية كانت و مازالت مدار جدل بين المجتمع المدني و الممولين ،و ذلك لضعف الخبرة و قلة الموارد ،و غياب الطابع التشاركي المؤسساتي ،و هنا نؤكد أنه ليس من الضرورة أن يحتفظ المجتمع المدني بالمشاريع التنموية – في مختلف المجالات – لوقت غير محدود ،بل يسهر على تنفيذها و تسييرها تم ايصالها إلى مرحلة نجاح واضحة و بعد ذلك تسليمها للفئات المستهدفة و المعنية لتنتقل هذه الهيئة أو الجمعية إلى تبني مشروع اخر و من هنا يتحول المجتمع المدني إلى فاعل تنموي حقيقي ينفد المشاريع و السياسات و يسلم حصادها إلى الساكنة[16] .
و هنا لابد من إعادة النظر في طريقة التمويل و كيفية الحصول على الدعم و التدريب و الاستشارة من أجل حسن تنفيذ القرارات العمومية من طرف هيئات المجتمع المدني ،بما في ذلك ابتكار طرق جديدة كمنح العقود و التمويل بقروض دون فائدة ،و انشاء صندوق لدعم تمويل المشاريع التي ينفذها المجتمع المدني ،و ضمان الدعم و التمويل لأطول مدى و أكثر مرونة في دعم مشروعات ،ولكن يجب أن يتأسس هذا التمويل على أساس منطقي و بمراقبة دقيقة للتسيير[17] ،إن الإجابة على هذه التحديات و الرهانات هي التي ستمكن من رسم معالم المرحلة المقبلة في مدى تعاطي الدولة مع الأدوار الجديدة للمجتمع المدني .

الفقرة الثالثة : دور المجتمع المدني في تقييم القرارات العمومية

إن التصور الجديد لتدبير الشأن العام وفق الديمقراطية التشاركية يدفع نحو اشراك المجتمع المدني إلى اخضاع المخططات والسياسات العمومية للتقييم والمراقبة ،هذا التوجه انتقل من الخطاب السياسي و التأطير القانون العادي إلى النص الدستوري[18] فمأسسة رقابة وتقييم القرارات العمومية أمر مطلوب لكي تتضح الرؤى ،فالإدارة التي لا تخضع للرقابة قد ولى عليها الزمن ،و الطرق الحديثة للتسيير أصبحت تنادي بضرورة وجود رقابة مجتمعية على مصالح المجتمع خصوصا مع تنامي و عي المواطنين بضرورة و جود ادارة مسؤولة ،للمواطن الحق أن يسائلها حتى تتحول منطق المواطن في خدمة الادارة و لو بطرق غير شرعية (الرشوة ،الوساطة ،المحسوبية) ،إلى ادارة متعاونة تخدم مصالح الشعب ،فتقييم القرارات العمومية من أبرز اليات الحكامة الجيدة . فالمجتمع المدني يمكن أن يساهم بقوة في اخضاع المرافق العمومية لمعايير الجودة ،و الشفافية ،والمحاسبة ،و المسؤولية ،بل واخضاع تسييرها للمبادئ الديمقراطية كما يمكن له المساهمة في اخضاع أعمال أعوان و موظفي المرافق و المؤسسات العمومية لمبادئ احترام القانون و الحياد و الشفافية و النزاهة ،والمصلحة العامة ،بل و يمكن أن تشارك في اخضاع الاموال العمومية للمراقبة و التقييم ،و هنا يمكن أن نذكر على سبيل المثال دور كل من الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد ،و الجمعية الوطنية لمحاربة الرشوة ودورهما في تفعيل الدستور في الجزء الخاص بمحاربة الفساد و الرشوة ،و هذا كله من شأنه اشاعة ثقافة المحاسبة ،و تخفيف المراقبة القبلية (الوصاية) ،والدفع بالمراقبة البعدية ، وربط العلاقة بين النتائج المحققة و الموارد المرصودة ،و بهذا ستنتقل الادارة المغربية من الجمود إلى الحركية و ثقافة العطاء المنتج .
إن القانون التنظيمي الذي سيحدد مقدار ،وكيفية واليات تدخل المجتمع المدني في تقييم القرارات العمومية يجب أن يكون واضحا في معناه و مبناه لكي يتفادى جميع الفاعلين التصادم و التأويل الخاطئ في المستقبل ،و من أهم هذا الاشكاليات تقديم تعريف واضح لمصطلح اشراك المجتمع المدني في تقييم القرارات العمومية ،ونرى أن يتم توسيع هذا المصطلح ليشمل كل الاعمال التي يمكن أن يقوم بها المواطنون ،والمواطنات ،وهيئات المجتمع المدني بهدف رقابة تنفيذ القرارات و السياسات العمومية ومطالبة المؤسسات والمرافق العمومية بإبلاغ عن ظروف تسيير شؤونهم ،هذه الرقابة قد تبتدئ بالمطالبة بالحصول و الولوج إلى المعلومة ،وهو حق أصبح دستوريا يجب الإسراع في تزيل قانونه التنظيمي يحدد بدقة حدود السر المهني حتى لا يصير هذا الاخير ” فيتو ” يتم اخراجه عند الشفافية و الوضوح في التسيير لأن هناك ارتباط وثيق بين الحق في الحصول على المعلومة و بين تفعيل الادوار الدستورية الجديدة للمجتمع المدني ثم الاتجاه نحو الاحتجاج بتقديم العرائض المنصوص عليها دستوريا ،وفي غياب التفاعل مع هذا الاليات يمكن تبني آلية التظاهر و الاعتصام المسموح بها دستوريا أمام المؤسسة أو المرفق العمومي المعني ومن تم الاتصال بوسائل الاعلام لفضح الخروقات ،وكشف التلاعبات أو للضغط لتبني قرارات تخدم صالح المواطنين ،وصولا إلى التوجه للقضاء لمتابعة و تحقيق مبدأ المشروعية ،وتصديه لكل الممارسات المخالفة للقانون ،هذا دون اغفال التقارير الميدانية الخاصة بكل هيئة حسب تخصصها ،والتحسيس ،والتوعية بالبرامج التي لا تستجيب للمعايير القانونية ،أو تقديم تقارير دورية ،واستثنائية ،وعقد جلسات استماع ،كما بجب انشاء خلايا للتواصل داخل المرافق العمومية من أجل استقبال الشكايات ،ويمكن الاستئناس بما جاءت المناظرة الوطنية الأولى حول الإصلاح الإداري بالمغرب في ماي 2002 م التي دعت في مادته 107 إلى مأسسة الاستطلاع الرأي بصفة دورية لدى مختلف الفئات المتعاملة مع الادارة لمعرفة حجاتهم و انتقاداتهم .
إن هذه الإشكاليات ينبغي على الحوار الوطني حول الادوار الدستورية الجديدة للمجتمع المدني أن يجد له سندا قانونيا و يحدد حدودها حتى لا يسقط المرفق العام في الفوضى ،إن اشراك المجتمع المدني في تقييم و متابعة القرارات العمومية سيمكن من تدارك الأخطاء و مختلف الاختلالات التي قد تشوب عملية التنفيذ ،كما تسمح بتقييم عمل المجتمع المدني نفسه و ذلك بإجراء مقارنة بين اقتراحات التي قدمتها هيئاته و النتائج المحققة[19] ،و بصفة عامة فإن اشراك المجتمع المدني في مراقبة و تقييم القرارات العمومية يتطلب يقظة مجتمعية و تكتل هيئاته ،و تكوين المهتمين بالشأن العام ،و معرفة بالقواعد القانونية التي تسمح للمجتمع المدني في الرقابة لكي لا يقع زيغ عن الخطوط المرسومة .
و من هنا نتساءل عن دور المواطن الفرد في صناعة القرار العمومي ،وهو ما سنخصص له مطلبا ثانيا في المقالة المقبلة ،وكخلاصة عامة للمطلب الأول يمكن القول أن الدستور الجديد قد حاول تقديم بناء ،وتصور جديد للديمقراطية وطرق صناعة القرار العمومي انطلاقا من اتخاذه إلى تنفيذه ،و تقييمه ،وذلك بتبني والتنصيص على بعض الاليات مباشرة أو بانتظار صدور قانون تنظيمي يحدد آليات أخرى ،وإذا كان الدستور الجديد قد مر على وجوده أكثر من سنتين دون تنزيله ،فإن الحوار الوطني حول الأدوار الدستورية الجديدة للمجتمع المدني الذي مازالت مستمرة جولاته الجهوية ينتظر من نتائجه تفسيرا ديمقراطيا واسعا للأدوار الدستورية للمجتمع المدني ،وبالتالي فدستور 2011 موقوف التنفيذ على مدى ،ومستوى القوانين التنظيمية المنزلة للأدوار الدستورية للمجتمع المدني.

*
حاصل على دبلوم ماستر في القانون الدولي الإنساني و حقوق الإنسان
كلية العلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية بمكناس




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.