الركيزة التاسعة: مقاومة الفشل
إن هذا النقد الذي نوجهه اليوم لما تبقى من اليسار، يروم تعرية مكوناته التي باتت غير قادرة على فهم صيرورة تدمير الهويات السياسية الكلاسيكية، و عاجزة عن الوعي و الفهم بأن الهويات التي شكلت في زمن ما منطلقا لوجودها قد دخلت في صراع مع هويات أخرى. مما يقتضي اليوم بناء هوية يسارية جديدة قائمة على الحرية و الاختلاف، و قادرة علميا و عمليا على فهم طبيعة السياسة الديمقراطية ببلادنا و رهاناتها. و هنا لا بد من التفريق بين مقصدية الهجوم على اليسار و بين مقصدية نقد اليسار، التي نتبناها، حتى نستطيع أن نتجاوز نقائص البراديغم السائد في النظرية الديمقراطية. خاصة و أن أمامنا فرصة تاريخية لإعادة النظر في مفهوم “الزعيم” السياسي الذي يحقق في سياق البحث عن مصالحه المصالح العامة.
إن الطريق الرابع، ينص على أن آليات تجديد اليسار موجودة في اليسار ذي الأفق الاستشرافي الذي يؤمن بتجديد ذاته و نقدها و لا يتحرج في مقاومة فشله، و يؤمن بدور العقل في تكوين الهويات الجمعية القائمة على الديمقراطية التعددية القادرة على التأثير في القرارات السياسية، وفي دعم كل المواقف التي تعزز الدفاع عن قضية ما.
و حتى لا نسقط في التبعية الممجوجة لموجات الأيديولوجيات الجاهزة و الجمود النظري و غياب الانسجام بين النظري و العملي، اختار الطريق الرابع، عن وعي، و بعد رؤية نقدية عميقة، مغاربة العالم القروي و سكان الجبل و الواحات و السهول و السهوب و ضواحي المدن، ميدانا لمقاومة الفشل و كل أشكال النضال اليساري الفوقي.
كما اختار الطريق الرابع مقاومة احتقار المبادرات الميدانية و تبخيسها من طرف زعماء “العقل المستعار” و أصحاب “الأجوبة المعلبة” في “الهامش” الذي يحتاج شبابه إلى يسار آخر، و إلى متنفس يربط بين التنمية المحلية و العدالة المجالية ، و بين نظام الدولة الاجتماعية.
إن فشل ما تبقى من اليسار في مواجهة السؤال بالإجابة عن “الأسئلة المحرقة” و لجوئه إلى تتبع ميكانيكي لسياسة الحكومة و مواقفها بدل نقد النظام الاجتماعي كأساس لفهم واقع التطور الاقتصادي و الاجتماعي الراهن، أسقطه في فقر نظري فظيع ، ترتب عنه تيئيس فكري، و تنامي الشعبوية الملفوفة بالكراهية، جراء العقم التحليلي الذي ابتلي به اليسراويون، و الذي بموجبه عجزوا عن القيام”بالتحليل الملموس للواقع الملموس”.
و إذا كانت ثورة المعلومات قد أحدثت نقلة نوعية في حياة البشرية، فإن ما تبقى من اليسار ، استغلها سلبيا، حين جعل منها منصة لقتل كل إبداع ملتزم بتجديد نفسه و تصحيح أخطائه، مع اغتيال الفكر النقدي، و ممارسة الاستعلاء الزائف الذي يخفي “الكسل الفكري” بعقلية ارتدادية وخطابات شعاراتية.
هكذا أضحى هذا اليسار أمام العلن، عاجزا حتى عن تحديد هويته، و انتماءه الطبقي، و منظومته الأيديولوجية، و طبيعة نضاله من أجل الاشتراكية، و إستراتيجيات مقاومته للنيوليبرالية، ناهيك عن اغترابه الكبير عن قضايا مجتمعه.
و عين الطريق الرابع الناقدة أقرت بأن طغيان الشعبوية و الشعاراتية قد دفعت بتنظيمات و إطارات ما تبقى من اليسار إلى مزيد من العزلة و الاغتراب عن الشرائح الاجتماعية الواسعة من الناس، و هكذا حكم على نفسه، بالسقوط في أزمة بنيوية سياسية داخلية و خارجية قديمة تتكرر خيباتها دو أن تتطور .
لقد نهج ما تبقى من اليسار نهج اليقين، على غرار الإيديولوجيات النكوصية، و استسلم للتقليدانية، و لم يعد في حاجة إلى المعرفة، كما أغلق الباب في وجه أي تجديد معرفي، دون أي اعتبار لشرط الثقافة و الوعي النقدي المتطورين، ودون استشكال الصلة بين ممارساته وواقعه الراهن ، و دون رغبة في الانفتاح الفكري، و الاهتمام بدراسة “المغرب المحلي” و المصالحة مع نخبه.
و إذا كان عنوان ما تبقى من اليسار هو الفشل، فإن الطريق الرابع هو رؤية من أجل التغيير، و مقاومة الفشل، و محاربة التحجر و الجمود، والانتصار للتنوير و الاهتمام بعملية التثقيف والتراكم المعرفي، عبر الجامعات الشعبية، و المقاهي الثقافية، و المنتديات المدنية و الحضرية، و دور الفلسفة وعلم الاجتماع و الانثربولوجيا و التاريخ، و هلم علوما و فنونا، لتعويض “الشيوخ” و فتح الطريق أمام الشابات والشباب على مصراعيه.
يتبع…