8- الركيزة السادسة: مقاومة الحجر الايديولوجي

” النظرية جامدة، لكنها شجرة حياة متجددة”، هكذا عبر ذات يوم الفيلسوف كارل ماركس، لنفهم فيما بعد أنه كان يستشعر أن التاريخ لن يسلك المسار الذي كان قد تصوره. فالرأسمالية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، نجحت في خلق التحول داخل بنياتها، والبروليتاريا لم تعد تشكل سوى جزء صغير من مكونات المجتمعات، أمام صعود الطبقة الوسطى، التي باتت، عمليا، معنية باستمرار الرأسمالية، لأن هذه الأخيرة “سمحت لها” بالاستفادة من مكاسب البورجوازية، واستطاعت أن تقدم للطبقة العاملة امتيازات ومصالح، جعلتها تميل إلى الإصلاح وليس للثورة. وقد يكون هذا من الأسباب التي دفعت لينين، وبعده ستالين، للتخلي عن ماركس ورؤيته للثورة في بلدان الرأسمالية الغربية المتقدمة، والايمان بإمكانية نهوض الثورة في البلدان المتخلفة.
وقد تبين فيما بعد، أن الرأسمالية فعلا خلقت عالما رأسماليا يعيش في داخله تحول طبقي، وهذا ما أدى إلى تنوع فضفاض في وجهات النظر الماركسية واليسارية بشكل عام، وإلى التعامل مع ماركس والماركسية بشكل نفعي مصلحي، ما أدى إلى أزمة اليسار العميقة، والسقوط في “الدوكما”. وأصبح ما كان يحلم به ماركس في أوروبا يجب تطبيقه خارج أوروبا.
ونظرا لكل الفظاعات التي ارتكبت باسم الاشتراكية والثورية في عهد ستالين وما بعده، وتغول الرأسمالية وهيمنتها الامبريالية واشعالها لحروبها الامبريالية، وغزو النازية، وصعود الفاشية، واستعمار شعوب العالم الثالث، إلى غير ذلك من أشكال الهيمنة والسيطرة الغربية والشرقية، التي حاولت تصدير تجاربها إلى العديد من البلدان بالقوة، نرى من الضرورة الآن، أن نستفيد من أخطاء الماضي، ومن دروسه وعبره المؤلمة، لكي نتيح للأجيال الصاعدة الحق في فهم ما جرى، من دون أي كبت للأسئلة المحرقة، ومن دون القفز على المعرفة الموضوعية للتاريخ، لكي لا نسقط في قبضة الميتافيزيقا.
إن الطريق الرابع، يعتبر نظم المعتقدات التقليدية عنصرا معرقلا لتجديد اليسار المغربي، ويعرض ما تبقى من الأمل للخطر، لذا فإن الخطوة الضرورية الأولى هي الاعتراف بأن للمغاربة رؤى مختلفة للتاريخ وللعالم، وأن مقاومة التصورات الغيبية منها والتقليدية، قد تساعدنا على تأسيس ذاكرة جماعية مضادة لذاكرة الحروب والاستعمار والديكتاتوريات، وقادرة على مقاومة الحجر الأيديولوجي، وتحرير قوى التغيير من اليقين، وتثبيت الوعي بالحاجة إلى المعرفة، بعيدا عن منطق الحدس والتخمين أو القدرية.
يتبع

9- الركيزة السابعة: مقاومة البيروقراطية

لقد شكلت تعددية الاحزاب والتنظيمات المغربية اليسارية، عقبة حقيقية أمام تطور اليسار نفسه، خاصة وأن هذه التعددية ولدت من رحم الانقسامات والانشقاقات التي لم تتوقف طيلة أزيد من 50 سنة لأسباب موضوعية وذاتية، أظهرت العديد من العلل والأمراض بشكل مكثف.
ويعتبر الطريق الرابع، أن ما وقع طيلة هذه السنوات، لم يحظ بالاهتمام والنقد الضروريين، حيث استمر اليسار في لغو القول أكثر من ممارسة الفعل، خاصة في السنوات الأخيرة من عمره مع احتداد الخلافات بين مكوناته، والتي للأسف توارثتها الأجيال اللاحقة، وتعمقت هوتها جراء غياب الديمقراطية الداخلية، وتغييب الرؤى الاستراتيجية، وتحكم البيروقراطية وسيطرتها على الأجهزة التنظيمية.
من هنا، فالطريق الرابع، هو حراك داخل المجتمع، يؤسس لرؤية جديدة، أساسها المساهمة في إعادة البناء، لتجاوز التيه الذي وصل إليه اليسار و انسداد الأفق منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، و بناء قاعدة تنظيمات لا مركزية، وإعطاء المناضلين والمناضلات قدرا كبيرا من الحرية في العمل الميداني، وتشجيعهم على الإبداع وروح الابتكار و المبادرة، والسماح لهم بالنفاذ إلى وثائق الأرشيف، نظرا لخاصيتها المعرفية والأكاديمية، وتمكين الباحثين والدارسين من الاطلاع على ذاكرة اليسار وما تبقى منه.
إذ لا يخفى أن البنيات المغلقة لليسار قد ساهمت في طمس جزء من هويته، وفي خلق البيروقراطية التي أدت في السنوات الأخيرة إلى انحسار الحركة الجماهيرية حوله، و الإجهاز على حرية العقيدة والفكر والثقافة والسلوك الفردي ، وإضفاء طابع القداسة على القرارات الفوقية وجعل المناضلات والمناضلين منفذين بدل التمكين لهم بجعلهم متفاعلين، و تبني نوع من الخطاب السياسي الشعبوي لدغدغة مشاعر الناس طمعا في جذب الأنظار، واستقطاب الناس، وجلب الأصوات الانتخابية.
إن مساهمة الطريق الرابع في إثراء هذا الحوار الضروري، هي مساهمة من أجل تلمس مكامن النقص ومظاهر الخطأ، وتجاوز المعوقات و تحريك المياه الراكدة لفترة طويلة، والبحث عن سبل اعادة البناء ومقاومة الشيخوخة السياسية والبيروقراطية.
فهناك اليوم كما هو باد للعيان، شعور جارف بوطأة أزمة اليسار، ولجوء ما تبقى منه لعرقلة الحراك الشبابي الواعي والمسؤول، أو للركوب على مبادراته، وعلى وقفاته الاحتجاجية.
وفي غياب النقد الفكري والعلمي للواقع، والتثقيف السياسي عبر مراكز البحث والجامعات الشعبية والمنتديات الموضوعاتية والمقاهي الثقافية والأدبية ودور السياسة والتاريخ والقانون وعلم الاجتماع والانثربولوجيا، لاحتضان التجاذبات الفكرية، ظهرت موجة صاعدة من المدونين الذين تجاوزوا ما تبقى من اليسار، وفرضوا أنفسهم على وسائل الإعلام المختلفة، بتدويناتهم، وبياناتهم، وتعليقاتهم السياسية والأدبية والاجتماعية.
إن الحرب الطاحنة الخفية منها والمعلنة بين مكونات ما تبقى من اليسار، سمحت لاجتثاث جذور اليسار من المجتمع، وقطع أواصر العلاقات بينه وبين فقراء المدن والقرى وسكان الجبل والواحات والسهول والسهوب، والضغط على كل العناصر المتنورة منه، وخنقها، وتحطيم عنفوانها، وسلب حريتها، وهو ما أدى إلى ضعفها ومحدودية تأثيرها، وتقزيم وجودها في إطارات تقودها ظواهر صوتية تدعي اليسارية، وتكتفي برفع شعارات ترددها حتى الجمعيات المبادرة.
يتبع..




قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.